يصور الجورجي نودار دومبادزه (تبليسي 1928-1984) في روايته أرى الشمس واقع قرية جورجية صغيرة إبان الحرب العالمية الثانية، وينقل الأحوال القاسية التي كان يعيشها القرويون فيها، وخشيتهم على أبنائهم وأهلهم الذي يحاربون على جبهات القتال، والتغييرات التي أدخلتها أجواء الحرب على نمط حياتهم وظروفهم المعيشية. يشير دومبادزه في روايته -التي نشرتها دار الحرف العربي في بيروت بترجمة وتقديم رحاب عكاوي (2015)- إلى التداعيات الكبرى التي تدخلها المستجدات على دورة حياة الناس في شتى الأماكن، سواء كانوا على الجبهات أو في الحقول والمدارس. سخط ونقمة أرى الشمس عبارة ترددها الفتاة الصغيرة خاتيا، العمياء ذات العينين الزرقاوين، وهي عبارة تروق لصديقها الصبي سوسويا الذي كان ينتظر أن تسترد بصرها لتراه، يتأمل مثلها أن يتم إجراء عملية جراحية لها، مكررا قول الطبيب لها طالما أنت ترين الشمس فإن الأمل كبير في شفائك من العمى. تعيش خاتيا مع أبيها في بيت بسيط، وسوسويا اليتيم يعيش مع عمته كيتو التي أشرفت على تربيته وتنشئته وكرست له حياتها. يظهر الروائي أنه مع بدء الحرب تتغير طبيعة العلاقات بين الناس، من ذلك مثلا اضطرار داكيتو الذي يحب العمة كيتو للالتحاق بالذاهبين إلى الجبهة، ولا يلبث هناك طويلا حتى يعود في ليلة مظلمة، يقصد بيت حبيبته، يخبرها أنه لم يطق البقاء هناك وسط الموت والدمار وأنه يحبها ولا يستطيع الابتعاد عنها، وأن لا جدوى من الحرب العبثية التي يموت فيها الأبرياء، لكن كيتو كانت متحفظة جدا معه، وقابلته ببرود، بل وصمته بالجبن والتخاذل والهروب من الجبهة، وطلبت منه الخروج من غير رجعة. يعكس الروائي من خلال شخصية داكيتو وجهة نظر شريحة من الناس كانت رافضة للحرب وناقمة عليها، وليست مستعدة للانخراط فيها، لما تراه من جنون وعبثية وهدر للطاقات والأوطان، من دون أن يناقشوا الأسباب الموجبة لها أو المؤدية لها، مما يجر عليهم سخط المحيطين بهم ويضعهم في طرف آخر بعيدا عن الأعين والقلوب، ذلك أن اختيارهم تلك الضفة يكون معاكسا للمزاج العام المعبأ دعائيا. الحالة الأخرى المختلفة عن حالة داكيتو هي حالة الجندي الروسي الجريح أناتولي، إذ يعثر عليه أحدهم في حالة مزرية، مغشيا عليه والدماء تنزف من جسده، يخبر سوسويا بذلك، ويسارع سوسويا بإخبار عمته التي تهرع لمساعدته وإسعافه، تعتني بجروحه، وعلى الرغم من شح الغذاء والدواء فإنها تداويه وتطعمه، وبعد أسابيع يتحسن أناتولي، وتنشأ علاقة حب بينه وبين كيتو التي أنقذت حياته وداوته. يستعرض الروائي من خلال عقد مقارنة بين رجلين، أحدهما ابن القرية الجورجية الذي يرفض الانخراط في حرب طاحنة، والآخر روسي في صفوف الجيش تصيبه شظية على الجبهة فيتم إنقاذه بطريقة ما وتكتب له النجاة، يكتسب حبا جديدا وحياة جديدة، في حين أن داكيتو يحظى بفرصة النجاة، لكنه يفقد حبه الذي زعم أنه عاد من أجله، وهنا تكون المفارقة الجلية في تصوير المواقف وتباين وجهات النظر، ووقوع تضارب في الرؤى والأحلام والوقائع. يهتم دومبادزه لتصوير واقع الحرب الوحشي من وجهة نظر الأطفال أيضا في القرية، ذلك أنهم يجدون أنفسهم في مهب حرب لا يعرفون عنها شيئا، تغير حياتهم وحياة أهاليهم جميعا، فالشباب والرجال يساقون إلى الجبهات، والنساء يبدأن بتحمل المشقات أكثر من ذي قبل، ويتم إدخال مادة الفن العسكري إلى المناهج، بحيث يستشعر الأطفال نوعا من الحياة العسكرية يتعرفون إليها من خلال المعلم الجديد الوافد الذي لا يني يكرر لهم فنون القتال ويحدثهم عن الحرب والاستعداد لها. رموز ودلالات تحفل رواية دومبادزه بالرموز والدلالات، فالفتاة العمياء خاتيا تكون ذات بصيرة نافذة، تشعر بالأشياء كما لو أنها تبصرها، تعيش حلمها الوردي برؤية الفتى سوسويا الذي تكن له الحب، تريد النظر في وجهه وعينيه، تود اللعب والركض والتعرف إلى العالم من جديد، وتكرر عبارتها الشهيرة أرى الشمس، وتكون تلك الشمس بدورها دلالة رمزية على شروق شمس السلام بعد انتهاء الحرب. يلجأ جندي ألماني أسير إلى بيت كيتو فيطلب بعض الطعام لأنه جائع ومنهك، تسعفه كيتو بالطعام، تعطيه وجبة الغد التي تحتفظ بها لنفسها ولسوسويا، وحين يستنكر سوسويا ذلك تخبره عمته أن ظهوره أمر مبشر، وهو دلالة على أن الحرب انتهت، لأنه لو لم تنته الحرب لما كان ليسمح له بالتجول في القرية وهو على حاله، حينذاك تبدأ خيوط حياة أهل القرية بالترتيب من جديد وفق المعطيات الواقعية التي أفرزتها الحرب، حيث كثيرون رحلوا ولم يرجعوا، وآخرون ظلوا يتحسرون على مفقوديهم. كما يتداول الأطفال شؤون الحرب، يكبرون قبل أوانهم، يحاولون تفسير السياسات العالمية، يكررون كلمات الكبار، ينتقدون هتلر، يكيلون له الشتائم، ينتقدون الحكومة على أدائها، يحاولون أن يتماهوا مع ذويهم في آرائهم التي ينقلونها بطريقة طفولية بريئة، ويسعون لإسباغ صفات من هم أكبر منهم على أنفسهم وحواراتهم وأفعالهم، وبعضهم يجد نفسه مسؤولا عن أسرته وإخوته بعد أن فقد أباه أو أخاه الأكبر في الحرب. بالنسبة للأطفال وتغيرهم يختم دومبادزه روايته بمشهد مؤلم، وهو غرق الفتاة العمياء خاتيا التي يجرفها النهر معه، وحين يتم انتشالها تكون في الرمق الأخير، لقد كانت راجعة من المدينة ومؤملة إجراء العملية في العام التالي لأن الطبيب أخبرها بذلك، وهي تستعيد عبارتها بأنها ترى الشمس وتكرر مقولة الطبيب لها، ويؤكد لها صديقها سوسويا أنه سيصبح طبيبا من أجل أن يجري لها العملية ويعيد إليها بصرها. يختار دومبادزه لقطة الختام، يرويها على لسان بطله سوسويا الذي يخاطب الدرب بحكمة أكسبته إياها التجارب والأيام، قائلا: إلى أين تجري أيها الدرب وإلى أين تمضي بقريتي؟ أنا شاكر لك صنيعك أيها الدرب.. سنعود ميممين وجوهنا شطر المشرق الذهبي، وعندئذ سترتفع الشمس وراء جبال سوريبي، وتقول خاتيا بصوت عالٍ أيها الناس، هذه أنا، خاتيا، وأنا أراكم. يذكر أن نودار دومبادزه هو شاعر وروائي جورجي، ولد في مدينة تبليسي عاصمة جورجيا سنة 1928، من أعماله أنا والجدة وإلكو وإيلاريون، وأرى الشمس، وليلة مشمسة، وأمي لا تخافي، ورايات بيضاء، وكوكاراتشا، وقانون الأبدية. وكان دومبادزه رئيس اتحاد الكتاب الجورجيين منذ عام 1981 لحين وفاته، وحصل على العديد من الجوائز، منها جائزة روستافلي-جائزة الفنون الأرفع في جورجيا (1966)، وجائزة كومسومول (1966) وجائزة لينين (1980).
مشاركة :