يستعين بعضنا بالقرآن الكريم لا ليطالع إعجاز النص بما فيه، وإنما لكي يوظفه توظيف غاية وغرض لا يتصل بالضرورة بمعاني النص أو غاياته. وهذه معضلة تكاد تمتد من يومنا هذا إلى عصر التدوين، حيث شاع البحث عن تفسير وتبرير، للشيء وعكسه. ورغم ذلك، لا يزال الانتباه إلى مخاطرها شحيحا، إن لم يكن معدوما. لا نعرف سبيلا لدرئها، ربما لأنها أصبحت جزءا من العادة والمألوف. ومن سحر القرآن الكريم أنه مدهش في كل كلمة فيه، بل في كل حرف. بعض الكلمات نفهمه، وبعضها الآخر يظل لغزا، ولكن حتى اللغز لا يتقدم إلا على نحو مكشوف، بمعنى أنه لا يتطلب تأويلا على تأويل ولا باطنيات فيه. “أ ل م”، على سبيل المثال، هي “أ ل م”، تتكرر في بضع سور، وبقيت لغزا قد تذهب فيها التفسيرات إلى ما تذهب، إلا أن هناك شيئا واضحا فيها، هو أنها ليست لغزا خفيا، وإنما معنى شاء الخالق عز وجل أن يخفيه إلى حين. أحد أوجه العجب التي تلفت الانتباه، هي قوله تعالى “ذلك الكتاب لا ريب فيه”. ولطالما كان السؤال جديرا بالانتباه: لماذا قال”ذلك” ولم يقل “هذا الكتاب لا ريب فيه”؟ قد يتطلب الأمر تأملا، ولكنه يتطلب ثقة وإيمانا بأنه سبحانه لا يورد كلمة إلا وكانت تؤدي غرضها المقصود بالذات. منذ وقت بعيد، والكثير ممن يقدمون وجهات نظر مختلفة، ويؤلفون كتبا، يستهلون كتبهم بآيات من القرآن الكريم. ونادرا ما تنجو خطبة سياسية أو دينية من آيات يستشهد بها قائلها، حتى لكأن قائلها يريد أن يُثبت أن قوله هو الحق، وأن لا حق سواه، وأن دليله على ذلك هو ما ينقل أو يستشهد به من قول الرحمن. وهذا من سوء التدبير. ذلك أن استخدام آيات القرآن لأغراض الدفاع عن وجهات نظر قابلة للجدل، هو استخدام سيء، على الأقل لأنه يوظف تلك الآيات لغرض قد يصح وقد لا يصح. الخطاب السياسي الذي يوظف القرآن لغاياته، معضلة قائمة بذاتها. لأنه يجعل من آيات الذكر الحكيم أداة من أدوات الإقناع، أو من “عدة الشغل” التي ينافح بها أولئك الذين يستخدمون الدين سُلما للسياسة. وهذا مرض شائع، ويكاد لم ينج منه كل صاحب غاية أو غرض. حتى أنك لا تسمع خطبة تحرض على شيء من القتل والعنف إلا وتجد لها آيات. ثم لا تجد خطبة تدافع عن الوجهة الأخرى إلا وتجد لها آيات أخرى، حتى ليجوز التساؤل عما إذا كان في الأمر تناقض، أو حتى ليتوفر الشعور بأن هناك في أقل الأحوال أمرا مثيرا للحيرة أو الالتباس. والقرآن الكريم جلّ عن ذلك كله. ومن يدرك رفعته، يعرف أنه لا تناقض فيه، ولا حيرة، إلا عندما يتم التجرؤ عليه بتوظيفه لغايات تناهض أخرى من الأغراض الذاتية أو السياسية أو الدعائية. وقد يبلغ التهافت ما يبلغ في استخدام القرآن للدلالة على كل موقف من مواقف الدنيا. ويجيد أهل “الإسلام السياسي” استخدام “عدة الشغل” هذه لإقناع الناس، أو الجهلة منهم على الأقل، بأن ما يقولونه هو الحق. الذي أنزل القرآن يعرف، على أي حال، أننا سنفعل. ويعرف أننا سنورد الآيات في غير موارد الحق أو بالباطل دون مراعاة لا لقدسيتها، ولا حتى لمعانيها الأصلية، أو للأسباب التي نزلت من أجلها. في الفرق بين “ذلك” و”هذا” مسافة. قصدت أن تبعد الذكر الحكيم عما يتناقلون. يمكنك أن تتخيل الأمر على النحو التالي: سوف أنشر كتابا، يعكس آرائي الخاصة، وأضع في مقدمته القول “هذا الكتاب لا ريب فيه”. فما هو الانطباع الذي يتركه هذا القول لديك؟ الانطباع المباشر هو أن مؤلف الكتاب “لا ينطق عن الهوى”، وأن ما يقوله هو وحده الحق الذي لا ريب فيه. ولقد شاء الله عز وجل، أن ينجي كتابه، من ذلك بوضع تلك المسافة. فحتى لو تجرأ كاتب على القول “ذلك الكتاب لا ريب فيه”، فإن القول سوف يحيل إلى القرآن الكريم، وليس إلى أي كتاب سواه، بفضل المسافة الضمنية بين “هذا” و”ذلك”. قد يدرك المرء من ذلك سحرا، وقد يدرك إعجازا في دقة التوصيف، ولكن من المفيد أن ندرك نحن، كم أننا نمارس شرا عندما نستعين بآيات لنبرر بها ما نقول، أو لندافع بها عن موقف. والمواقف تخطئ وتصيب. كما أنها تتغير من حين إلى حين عندما تتبدل عناصرها، تنقص أو تزيد. والمعارف نفسها ليست على أي ثبات. وما من مطلق في العلم إلا بأضيق الحدود. والحال ينطبق على السياسة أكثر مما ينطبق على العلم نفسه، لأن عناصرها ومتغيراتها كثيرة، ولأن غاياتها، هي من الأساس، آنية ومحدودة. وضعُ القرآنِ في موضع الرأي، هو نفسه عمل خطير. هو عمل انتهازي قبل كل شيء، ولكن خطورته تكمن في قابليته على الإقناع بما قد لا يمكن أو لا يصح الاقتناع به. السياسة على وجه الخصوص، أجدر بأن تكون موضع مساءلة وشكوك. تلك هي طبيعتها. بينما يقصد الاحتكام إلى القرآن إخراجها من موضعها الطبيعي، ليجعل منها شيئا مقدسا. تسعى إلى أن تتقدس بما ليس لها، بينما هي تندس المقدس بتسخيره لأغراض غير أغراضه. فهل من سبيل يحول دون تلك الظاهرة؟ وهل يمكن للخطاب السياسي أن يتجرد من هذا النمط من التوظيف لآيات القرآن؟ ألا يمكن للسياسي أن يدافع عما يراه صوابا، بدلائل السياسة نفسها، لا بدلائل الدين؟ السياسي الذي يقدم لموقفه بآية، إنما يكاد يقول، من حيث يدري أو لا يدري، “هذا الكتاب لا ريب فيه”. بينما نعرف أن السياسة ليست بالضرورة، هدى للمتقين.
مشاركة :