وضعت قطر رهانها، في دعم تنظيمات الإسلام السياسي، على فكرة واحدة عبّر عنها أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة. وما تزال المنطقة تدفع ثمنها دما واضطرابا وتطرفا. تقول تلك الفكرة: إن الجماعات الإسلامية تبنت أفكارها المتطرفة في ظل حكومات استبدادية، فإذا ما تم الوفاء بوعد الديمقراطية الحقيقية والعدالة، فإنها سوف تعود لتتبنى أفكارا تشاركية. وبذلك، فإن التطرف يمكن أن يتم تعديله لكي يتعايش مع متطلبات الحياة ويقبل مجتمعا مدنيا. وكانت تلك من شر الرؤى. ليس لأن قطر أنفقت عليها عشرات المليارات من الدولارات، التي كان يمكن توظيفها في مجالات اقتصادية مثمرة، للحد من الفقر، وهو أحد منابع التطرف. وليس لأنها أسهمت في تحوّل الانتفاضات العربية ضد سلطات الاستبداد إلى مأساة مدمرة، وأدت إلى انقلاب الصراع الداخلي من مواجهة المجتمع للاستبداد إلى تمزيق المجتمع نفسه، بل لأنها تجاهلت كليا الأصول العقائدية للتطرف، وعمدت إلى التعامي عنه. وعندما برز فساد الرؤيا، فقد عمدت إلى تسليح التطرف، لكي يعود فينقض من الأساس فكرة الانخراط في مجتمع مدني، هي نفسها. والحقيقة، فإن الجماعات الإسلامية المتطرفة لم تقم بصنع أي أفكار جديدة. فكل ما تمت الاستعانة به من أفكار وتصورات وتفسيرات، جاء من مصادر سابقة على الاستبداد المعاصر في الدولة الوطنية التي نشأت في عهود ما بعد الاستقلال. لقد مرت المجتمعات الإسلامية بعهود ظلام طويلة، ساد فيها استبداد المستعمرين. ومثلما كانت هذه المجتمعات تبحث عن سبيل للتحرر والتقدم، فقد كان من الطبيعي أن تقدم أفكارا ورؤى متفاوتة، تنهل من منابع مختلفة. المشكلة هي أن الحلول التي قدمها أمثال أبوالأعلى المودودي وابن تيمية، لم تكن أجوبة على مأزق التخلف ولا متطلبات التحرر، بل كانت مشروعا يقرأ الأزمة من منطلق لا علاقة له بالحاضر ولا بالمستقبل. بل قرأت الماضي من نصوصية متعجرفة، لتصدر أحكاما قطعية، لا علاقة لها حتى بالماضي نفسه. ما حصل هو أن أفكار التطرف برزت كشجرة إبليس، خارج بستان الثقافة العربية والإسلامية وموروثاتها الفقهية التي اتسمت تياراتها الرئيسية بالوسطية والاعتدال والسعي إلى اقتفاء أثر المصلحة والقبول بالآخر، فانتهت إلى التجريم والتكفير والعنف حيال المجتمع نفسه، وليس مضطهديه. “الحاكمية لله”، على سبيل المثال، واحدة من تلك الأفكار المتعجرفة التي لا تقبل النقاش ولا النقض. وهي من القوة “التأسيسية” إلى درجة أنها تشكل نقضا تلقائيا مطلقا لفكرة الديمقراطية والحياة المدنية. ومن الناحية العملية، فإن تلك الفكرة ظلت تعني أن “الحاكمية” هي لمن يمثلون الله أو يشكلون امتدادا أرضيا له. وعلى الرغم من أن تعدد القراءات جزء من طبيعة الموروث الثقافي الإسلامي، فإن قراءة التطرف الخاصة ظلت، على امتداد الجماعات الإسلامية كلها، المسلحة وغير المسلحة، هي وحدها القراءة الصحيحة، وأنهم هم وحدهم “الفرقة الناجية”، وكل الباقي إلى جحيم، فإن لم يذهبوا إليه طوعا، ذهبوا إليه كرها. هذه القراءة إذا كانت هي ذاتها قراءة “الإخوان المسلمين”، فهي ذاتها أيضا قراءة داعش والقاعدة وجبهة النصرة وحزب الله وكل المؤمنين بأنهم هم وحدهم على حق، وكل الباقي كفرة. قد لا يستطيع المرء أن يميز ما إذا كانت قطر قد خدعت نفسها بتلك الفكرة، أم أنها كانت تؤمن بها حقا. ولا ما إذا كانت عاجزة أن ترى أن أفكار التطرف ليست سوى ثمرات من شجرة إبليس، أم أنها تعمدت ذلك، إلا أن الحقيقة المُرّة هي أنها جعلت هذه المنطقة تغرق في جحيم التطرف الذي كان يفترض أن نتخلص منه بالتعايش في “مجتمع مدني”. من السهل تماما أن يرى المرء حجم الكارثة، ليستدل من خلالها أن تلك الرؤيا كانت، في الأقل، ناقصة أو عاجزة عن أن تثمر ما كان يفترض أن تثمره. فإذا حدث أن رفضها المجتمع، فإن المنطق كان يتطلب قراءة مختلفة. وإذا حدث أن تحولت إلى سبب للمزيد من الانقسامات والصراعات الحادة التي تبعد الجميع عن هدف “المجتمع المدني”، فإن المنطق كان يتطلب استدراكا عاجلا. وكل هذا يهون. فقد دفعت المنطقة 11 عاما من الصراعات الداخلية وضياع الاستقرار، والتخبط، وسفك الدماء، ولكن، أفهل تعلمت قطر منها شيئا؟ اُنظر إلى تغطية التطرف بالسلاح وبالمرتزقة وتمويل أعمال العدوان الخارجية، وسترى أن قطر تمارس قراءتها المتعجرفة الخاصة، لكل شيء تقريبا، من الدفاع عن “اعتدال” تنظيمات شجرة إبليس وفروعها المختلفة، إلى الدفاع عن “السيادة” تلك التي باتت لا تعني إلا شيئا واحدا هو الإصرار على الباطل والتمسك بإلحاق الأذى والضرر بالآخرين. بعد كل الذي حصل، وبعد كل الذي جنته المنطقة من الثمار المُرّة، ألم يحن الوقت للاستدراك؟ ألم يحن الوقت لقراءة أخرى لتلك الرؤيا، على الأقل لوضع حد للخراب المتواصل وتكلفته المتصاعدة؟ ولو حدث أن تحوّل الأمر إلى مواجهة عسكرية بين مرتزقة قطر (بمن فيهم أردوغان نفسه) وبين مصر في ليبيا، فهل تحسب الدوحة أنها من “الفرقة الناجية”؟ يعجز المرء في الواقع أن يفهم، كيف يمكن لذلك أن يحصل، لولا أن شجرة إبليس قد تمكنت واستحكمت إلى درجة أن هذا البلد، بكل ما يملك، صار هو نفسه، رهينة طيعة للشر، وجزءا لا يتجزأ من تلك الشجرة.
مشاركة :