بقلم: محمد حماد الإمام الفقيه المجتهد الحافظ العلامة قاضي القضاة، شيخ الإسلام ابن دقيق العيد، كانت له لفتات ولوامع حسبما ورد في موسوعة المجددين في الفكر الإسلامي تضعه على رأس أصحاب النزعات التجديدية في التفكير الإسلامي، حتى إن عدداً من المؤرخين اختاروه واحداً من مجددي القرن السابع الهجري.قال عنه الحافظ أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري: «لم أرَ مثله فيمن رأيت، وكان للعلوم جامعاً، وفي فنونها بارعاً، مقدَما في معرفة علل الحديث على أقرانه، منفرداً بهذا الفن النفيس في زمانه، بصيراً بذلك، شديد النظر في تلك المسالك، وكان حسن الاستنباط للأحكام والمعاني من السنة والكتاب، مبرزاً في العلوم النقليَة والعقلية».وعده الإمام شمس الدين الذهبي مجدد الإسلام على رأس المئة السابعة للهجرة.وفي كتابه «المجددون في الإسلام»، وضع الدكتور عبد المتعال الصعيدي ابن دقيق العيد على رأس المجددين في الإسلام في القرن السابع الهجري، فقال: «ولابن دقيق العيد لفتة عابرة قد تدل على أنه كان فيه شيء من نزعة التجديد، وذلك أنه لما جاءت التتار إلى الشام في سنة 086 ه الموافق 1821 م، ورد مرسوم السلطان إلى القاهرة بعد خروجه منها للقائهم أن يجتمع العلماء ويقرأوا «صحيح البخاري»، فاجتمع العلماء وقرأوه إلى أن بقي شيء منه، وكان هذا في يوم خميس، فأخروا ما بقي إلى أن يتموه يوم الجمعة، فلما كان يوم الجمعة رأوا ابن دقيق العيد في الجامع، فقال لهم: ما فعلتم ببخاريكم؟، فقالوا: بقي ميعاد أخرناه لنختمه اليوم، فقال: انفصل الحال من أمس العصر، وبات المسلمون على كذا، فقالوا: نخبر عنك، فقال: نعم، فجاء الخبر بعد ذلك، وكان النصر فيه للمسلمين، وقد عد السبكي هذا من كرامات ابن دقيق العيد».والحق أن قول ابن دقيق العيد: «ماذا فعل بخاريكم؟، يريد منه أن النصر قد تم بما أمر الله بإعداده من قوة ومن رباط الخيل، وليس بقراءة البخاري ونحوه، على عكس ما فهم الإمام السبكي؛ لأن المسلمين تركوا الاعتماد على العلوم التي تمكنهم من إعداد ما أمرهم الله به من القوة الحربيَة». دعاء مستجاب هو الإمام محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري القوصي، أبو الفتح تقي الدين، ابن دقيق العيد، ولد يوم السبت 15 شعبان سنة خمس وعشرين وستمئة، في البحر الأحمر عند ساحل ينبع؛ حيث كان والده مجد الدين القشيري القوصي متوجهاً إلى الحج. ويقال إن والده لما قدم مكة حمل رضيعه بين يديه وطاف به البيت وهو يدعو الله سائلاً أن يجعله عالماً، وقد استجاب الله دعاءه.غلب عليه لقب ابن دقيق العيد، وهو لقب جده الأعلى الذي كان ذا صيت ذائع، ومكانة رفيعة بين أهل الصعيد، وقد لقب بذلك؛ لأن هذا الجد كان يضع على رأسه يوم العيد طيلساناً شديد البياض، فشبَهه العامة من أبناء الصعيد لبياضه الشديد هذا «بدقيق العيد».نشأ ابن دقيق العيد في مدينة قوص التي كانت تشتهر في ذلك الوقت بمدارسها العديدة ونهضتها الثقافية الواسعة، تحت رعاية والده مجد الدين القشيري، الذي تخرج على يديه الآلاف من أبناء الصعيد، كما يشير إلى ذلك الأدفوي في «طالعه السعيد» في تراجم متفرقة. إشعاع القاهرة وقد عاش شبابه تقياً نقياً ورعاً طاهر الظاهر والباطن، وذكر كثيرون في ترجمته أن ابن دقيق العيد حفظ القرآن الكريم حفظاً تاماً، وتفقه على مذهب الإمام مالك على يد أبيه، ثم رجع وتفقه على مذهب الإمام الشافعي على يد تلميذ أبيه البهاء القفطي، كما درس النحو وعلوم اللغة على يد الشيخ محمد أبي الفضل المرسي، وشمس الدين محمود الأصفهاني، ثم ارتحل إلى القاهرة التي كانت في ذلك الوقت مركز إشعاع فكري وثقافي يفوق كل وصف،، فانتهز ابن دقيق العيد هذه النهضة العلمية الواسعة.لازم ابن دقيق العيد سلطان العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام حتى وفاته، وأخذ على يديه الأصول وفقه الإمام الشافعي، وهو من سماه بسلطان العلماء، وجلس إلى الحافظ عبد العظيم المنذري، وإلى عبد الرحمن البغدادي البقال، ثم سافر بعد ذلك إلى دمشق وسمع بها من الشيخ أحمد عبد الدايم وغيره، ثم اتجه إلى الحجاز ومنه إلى الإسكندرية فحضر مجالس الشيوخ فيهما، وتفقه، وبلغ غايته في شتى أنواع العلوم والمعرفة الإسلامية. قاضي القضاة بعد أن حصل ابن دقيق العيد كل هذا العلم لم يمكث بالقاهرة طويلاً، حتى عاد من جديد، إلى مسقط رأسه قوص، وتقلد منصب التدريس بالمدرسة النجيبية، وهي إحدى المدارس الشهيرة في قوص، وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره، فالتف حوله المريدون ينهلون منه مختلف الفنون والمعارف الإسلامية.وقد عرف بغزارة علمه وسعة أفقه، فذاع صيته بين الناس، حتى إن والي قوص أسند إليه منصب القضاء على مذهب الإمام مالك، ثم اتجه بعد ذلك إلى القاهرة، وقام فيها بالتدريس بالمدرسة الفاضلية، والكاملية، والصالحية، والناصرية، وكان ثقة في كل ما يقول أو يشرح حتى بلغ في النفوس مكانة سامية وطارت سيرته الحسنة، إلى القاهرة مجدداً ليرشحه أحد المقربين إلى السلطان منصور بن لاجين ليتولى منصب قاضي القضاة في مصر، حينما توفي عبد الرحمن بن بنت الأعز وخلا بموته هذا المنصب، قائلاً: «هل أدلك على محمد بن إدريس الشافعي، وسفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم؟ فعليك بابن دقيق العيد». ميراث عظيم ترك ابن دقيق العيد الكثير من المؤلفات في الفقه والحديث ولعل أشهرها: «الإلمام الجامع أحاديث الأحكام»، في عشرين مجلداً، وهو من أعظم ما صنف في مجاله، وشرح لكتاب التبريزي في الفقه، وفقه التبريزي في أصوله، كما شرح مختصر ابن الحاجب في الفقه، ووضع في علوم الحديث كتاب الاقتراح في معرفة الاصطلاح، وله تصانيف في أصول الدين، كما كان ابن دقيق العيد، بجانب امتيازه في التدريس والفقه والتأليف، خطيباً بارعاً، وله ديوان شعر ونثر.توفي بالقاهرة في صبيحة يوم الجمعة لتسعة أيام بقيت من صفر 702ه، بعد أن عمر 77 عاماً، قضاها في خدمة الدين الإسلامي الحنيف في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. ودفن يوم السبت بسفح المقطم، وكان يوماً مشهوداً، وقد وقف جيش مصر ينتظر الصلاة عليه.
مشاركة :