هيجل..«أبو فلسفة الاغتراب»

  • 6/27/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

القاهرة: "الخليج" يكاد ينعقد إجماع الباحثين على أن هيجل (1770- 1831) هو أول من استخدم في فلسفته مصطلح «الاغتراب» استخداماً منهجياً مقصوداً ومفصلاً، ومع تزايد البحث في تأثير هيجل على من جاؤوا من الفلاسفة الذين أخذوا عنه هذا المصطلح تزايد أيضاً البحث في الاتجاه العكسي، أي تأثر هيجل بالسابقين عليه أو المعاصرين له على السواء، فكانت محاولات التنقيب عن تلك المصادر والأصول التي يمكن أن يكون هيجل قد استمد منها فكرة أو كلمة «الاغتراب». جاء ذكر كلمة «الاغتراب» في تراث العصور الوسطى الفكري، بطريقة عرضية غير مقصودة، وفي العصور الحديثة كان اهتمام فلاسفة نظرية العقد الاجتماعي بمسألة انتقال الإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة الاجتماع البشري، وشروط قيام المجتمع المدني والسياسي، كما كانت محاولاتهم الرامية إلى تأسيس فلسفة اجتماعية على أسس علمية دقيقة، وفي هذا المجال ظهرت نظرية العقد الاجتماعي كأحد الإسهامات التي قدمها هؤلاء الفلاسفة لتفسير قيام المجتمع بمؤسساته وسلطاته المختلفة، ومن المعروف أن روسو هو من أطلق على عملية التنازل أو التخلي عن الحقوق الطبيعية ونقلها إلى المجتمع، كلمة «الاغتراب». على أن روسو، لم يكتف بإبراز العنصر الإيجابي في الاغتراب فحسب، وإنما أبرز أيضاً العنصر السلبي فيه، وهو ذلك الذي يتمثل في ضياع الإنسان في المجتمع وانفصاله عن ذاته، وفي منتصف القرن الثامن عشر ازدادت التناقضات الاجتماعية في أوروبا، فبدلاً من أن يقوم مجتمع تتحقق فيه حاجات الأفراد جميعاً، وعلى قدم المساواة، قام مجتمع تغلب على أفراده المنفصلين عن بعضهم البعض، علاقة البائعين والمشترين للسلع، وإزاء الواقع التاريخي الممزق ازداد لجوء الفلاسفة، وخاصة أصحاب المثالية الألمانية، إلى العقل، من أجل فهمه والسيطرة عليه. الاغتراب سواء كان إشكالاً أم فكرة أم كلمة، كان موجوداً في التراث السابق على هيجل، ومع ذلك تبقى الحقيقة التالية: أن هيجل هو أول من استخدم في مؤلفاته كلها تقريباً مصطلح الاغتراب على نحو منهجي ومفصل؛ بل لقد استخدمه في عنوان لصفحات تزيد على مئة في كتابه الأول «ظاهريات الروح» وبذلك تحول الاغتراب على يديه من مجرد إشكال يعانيه الإنسان في عصور الأزمة والقلق إلى مصطلح فني ومفهوم دقيق يطلق عن قصد ومن هنا كان النظر إلى هيجل من جانب الباحثين على أنه «أبو فلسفة الاغتراب». لم يتوصل هيجل إلى مصطلح الاغتراب فجأة؛ بل لقد خضع هو نفسه لذلك التحول التدريجي الذي طرأ على سيرة المصطلح فنحن نراه يعاني وهو شاب أزمة عصره التي كانت في صميمها أزمة اغتراب، وكان يعبر عن هذه التجربة الحية، في «مؤلفات الشباب الدينية» التي نشرت بعد وفاته، بمصطلحات أخرى غير الاغتراب، كان يستمدها في الغالب من الدين أو السياسة، ولم ترد كلمة الاغتراب نفسها في هذه المؤلفات، سوى مرات قليلة، وبوجه عام يمكن القول إن الاغتراب عند هيجل الشاب كان يحمل دلالة سلبية غير مقبولة؛ إذ كان يعني في أغلب المواضع فقدان الحرية والتلقائية والحيوية، وغير ذلك من مظاهر سلبية، تتعارض مع الحرية، وتحول دون أن يكون الإنسان واحداً أو متناغماً مع نفسه ومع العالم. كان هيجل، قد دخل بناء على رغبة والديه معهداً دينياً، ليكون رجلاً من رجال الدين، لكنه بعد أن تخرج في عام 1793 آثر الاهتمام بالفلسفة على الانخراط في سلك اللاهوت، فعمل مدرساً خصوصياً في برن ثم فرانكفورت، وكانت الفترة التي قضاها في تلك المدينة حاسمة في مساره، ففيها بدأ يتحول وينتقل من الدين متجهاً إلى الفلسفة، ولم يتخذ قراره بأن يصير فيلسوفاً بطريقة عقلية باردة، وإنما كانت نتيجة تجربة حية ووليد أزمة عنيفة، ولم تكن هذه الأزمة شخصية نفسية، بقدر ما كانت أزمة عصر؛ بل وتاريخ أمة، انعكست وتفاعلت داخله، ولم يكن ذلك تحولاً عن الدين، خاصة إذا فهمنا أن الدين عنده لا ينفصل عن التاريخ.

مشاركة :