قال الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى: ((وكلُّ جزءٍ من أجزاء الزمان فهو بيقينٍ ذو نهايةٍ من أوله ومنتهاه.. والكلُّ ليس هو شيئاً غيرَ أجزائه، وأجزاؤه كلُّها ذاتُ مبدإ؛ فهو كله ذو مبدإٍ ضرورةً؛ فلما كان الزمان لا بد له من مبدإ ضرورة، وكان العالم كله لا ينفك عن زمان، والزمان ذو مبدإ: فما لم يتقدم ذا المبدإ فهو ذو مبدإ ولا بد؛ فالعالم كلُّه جوهرُه وعَرَضُه ذو مبدإ؛ وإذْ هو ذو مبدإ فهو مُحْدَث، والْمُحْدَثُ يقتضي مُحدِثاً ضرورة؛ إذ لا يُتوهَّم أصلاً، ولا يمكن مُحْدَثٌ إلا وله محدِث؛ فالعالَم كلُّه مخلوقٌ، وله خالق لم يزل؛ وهو مَلِكُ كلِّ ما خلق، فهو إلهُ كلِّ ما خلق، ومخترعه لا إله إلا هو)). قال أبو عبدالرحمن: لا تَكْفي دلالَةُ (مُحْدَثٍ) بصيغة اسم المفعول؛ بل لا بُدَّ مِنْ الاقتران بنتيجةِ براهين الكمال والتنزُّهِ والغاية والقصد.. ولقد جعل الإمامُ ابنُ حزم رحمه الله تعالى مِن الزمانِ برهاناً على وجود الله سبحانه وتعالى بصفات الكمال؛ في كتابه (الْفِصَلُ) 1/5960/ط دار الجيل ببيروت عام 1405هـ؛ فقال: ((قال: أبو محمد رضي الله عنه: [الترضي من كلام الراوي عنه، أو الناسخ]: ما لا نهاية له فلا سبيل إلى الزيادة فيه، إذْ معنى الزيادةِ إنَّما هو أنْ تُضيف إلى ذي النهاية شيئاً من جنسه يزيد ذلك في عدده أو في مساحته؛ فإنَّ كلَّ الزمانِ لا أوَّلَ له يكون به متناهياً في عدده الآن، فإذن كل ما زاد فيه ويزيد مما يأتي من الأزمنة منه: فإنه لا يزيد ذلك في عدد الزمان شيئاً. قال أبو عبدالرحمن: معنى هذا الكلام: أنَّه لا أَوَّلَ للزمان؛ لأنَّه غيرُ مُتَناهٍ؛ وهذا صحيحٌ؛ ولكن بشرط أنْ يُضافَ إلى ذلك هذه الجملةِ: (إلا أنَّه مسبوقٌ بوجودِ الله على صفةِ الكمالِ الْمُطْلَقِ، والتَّنَزُّهِ الْمُطْلَقِ؛ لأنَّه سبحانه وتعالى هو الأوَّل لا شيئَ قَبْلَه).. ثم قال أبو محمد: ((وفي شهادةِ الحِسِّ: أنَّ كل ما وُجِد من الأعوام على الأبد إلى زماننا هذا الذي هو وقتُ ولايةِ هشام المعتدِّ بالله [قال أبو عبدالرحمن: ولايته منذ عام 418هـ إلى حين وفاته عام 428هـ]: هو أكثر من كل ما وُجِد من الأعوام على الأبد إلى وقت هجرة رسول الله.. فإن لم يكن هذا صحيحاً: فيجب إذن أنَّه إذا دار زُحَل دورةً واحدة في كل ثلاثين سنة (؛وزحل لم يزل يدور): دار الفلك الأكبر في تلك الثلاثين سنة أحد عشر ألف دورة غير خمسين دورة؛ (والفلك لم يزل يدور)، وأحد عشر ألفاً غير خمسين دورة أكثر من دورة واحدة بلا شك؛ فإذن ما لا نهاية له أكثرُ مما لا نهاية له بنحو إحدى عشر ألف مرة؛ وهذا محال لما قدَّمنا [قال أبو عبدالرحمن: وَجْهُ الإحالة هو المفاضلةُ بين الشيءِ في نفسه]؛ ولأنَّ ما لا نهاية له فلا يمكن ألبتة أنْ يكون عددُه أكثرَ منه بوجهٍ من الوجوه؛ فوجبت النهاية في الزمان من قِبَلِ ابتدائه ضرورة ولا مخلص منها [قال أبو عبدالرحمن: المعنى أنه كما أنَّ للزمانِ بداية: فإنَّ له نهاية؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الآخِرُ لا شيئَ بَعْدَه، وهو الحيُّ الباقي الدائِمُ الفعَّالُ لِما يريد].. ويجب أيضاً من ذلك أنَّ الحِسَّ يُوجِب ضرورةً أنَّ أشخاصَ الإنسِ مضافةٌ إلى أشخاص الخيل أكثرَ من أشخاص الإنس مفردة عن أشخاص الخيل.. ولو كانت الأشخاص لا نهايةَ لها: لوجب أنَّ ما لا نهاية له أكثرُ مما لا نهاية له؛ وهذا محال ممتنع؛ [لأنَّه مُفاضَلَةٌ بين الشيءِ في نفسه] لا يتشكَّل في العقل، ولا يمكن.. وأيضاً فلا شك في أنَّ الزمان مذ كان إلى وقت الهجرة جزءٌ للزمان مذ كان إلى وقتنا هذا.. ولا شكَّ أيضاً في أنَّ الزمان مذ كان إلى وقتنا هذا كلٌّ للزمان مذ كان إلى وقت الهجرة، ولما بعده إلى وقتنا هذا.. وإلى لقاءٍ عاجلٍ قريب في السبتية القادمة إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
مشاركة :