كُثر الحديث مؤخرًا، والعالم في حالة من الكر والفر للقضاء على الفيروس المستجد، عن تأثيرات وتداعيات هذه الجائحة بمخاطرها الممتدة على المجتمع ككل وعلى المرأة ومكانتها على وجه التحديد. ونشرت، بشكل متسارع، الكثير من المقالات والتقارير التي إما استنتجت أو جزمت بأن هذا الظرف الصحي الطارئ سيُحجّم من مشاركة المرأة في التنمية مع سوء الظروف وتبدل الأحوال. وحذرّت تلك الوثائق من احتمالات تراجع جهود أغلب الدول إلى المربع الأول بسبب الضغوط المتزايدة على الاقتصاد العالمي والتعطيل المستمر لطرائق الحياة كما اعتدناها، ومنها التحول إلى «المنصات بدلاً عن المقرات» في قطاعات التعليم والعمل وخدمات الحماية الاجتماعية.وتسترسل تلك التقارير بتحليلاتها، بتوقعات مقلقة على استقرار العلاقات الأسرية بسبب تفاقم المشكلات الاقتصادية وتعرض أفرادها للمخاطر النفسية والجسدية، في حال غياب أو تشتت الجهود -رسمية كانت أو أهلية- وبما لا يكفي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.وعندما اقترح معهد البحرين للتنمية السياسية موضوع ندوته لتكون حول «المرأة البحرينية في مواجهة الأزمات» التي أقيمت بتعاون مشترك مع المجلس الأعلى للمرأة في 24 من شهر يونيو الماضي، كان هاجس ما يردده العالم يهيمن على ما يستوجب قوله.. فهل المرأة البحرينية بعد مرور حوالي تسعة عقود منذ بدء تعليمها النظامي، مازالت تبحث عن دور لها في مواجهة الأزمات؟ وهل هي بعيدة أو مغيبة عن ميادين العمل والإنتاج؟ أو عن مواقع صنع واتخاذ القرار؟ وهل، ومن زاوية تقييم أخرى، تتعرض المرأة البحرينية لتهميش اجتماعي تفاقم أوضاعه ظروف الجائحة؟ وهل فقدت المرأة كافة مصادر دخلها؟ وهل تكافح المرأة للوصول إلى الخدمات الأساسية؟ فهل توقف تعليمها؟ وهل تعطلت وسائل وصولها للعدالة؟ سنترك الإجابة لمنطق وقناعة القارئ وهو يتابع حراك المرأة البحرينية في سياق تفاعلها الوطني مع متطلبات كل ظرف مهما كانت صعوبة ذلك الظرف. إذ تشير بعض الكتب والوثائق لمؤرخي البحرين لشواهد مادية ومعنوية عديدة توضح أن الشخصية الجمعية للمرأة البحرينية تتصف بالإقدام والمسؤولية في مواجهة الأزمات، وكان لهذا الدور صيغه المتفرقة والمؤثرة إلى أن أصبح نشاطها التطوعي في خدمة المجتمع أكثر تنظيمًا من خلال النشاط المدني الذي عرفته البلاد في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي. وتوثق الكتب قصصا عديدة حول مساهمات المرأة التطوعية على مر التاريخ وفي مختلف الظروف التي مرت بها البلاد، سواء في فترات الحروب (كالحرب العالمية الثانية وحرب السويس)، أو خلال أزمنة انتشار الأوبئة (كداء الكوليرا ووباء الملاريا)، أو خلال الكوارث الطبيعية والطارئة عندما شهدت البلاد، على سبيل المثال، في عام 1951 ما عُرف بحريق «العرشان»، وغيرها من الأزمات التي لا يسع الحديث عنها هنا، والتي مهما اختلفت تحدياتها.. فإن جهود واسهامات المرأة تبقى متوحدة أمامها بتعاملها المبكر مع شؤون واحتياجات مجتمعها. وقد لازم هذا التفاعل المجتمعي والإنساني للمرأة البحرينية عمل مواز تمثل في إنشاء المؤسسات الأهلية ذات الطابع الخيري والاجتماعي، وهي محطة همهمة للمرأة البحرينية ضمن عمليات البناء الوطني، حيث أخذت مساهماتها تأخذ طابعًا أكثر تنظيمًا وأوسع انتشارًا ليشمل اهتمامًا خاصا وفهمًا عميقًا للتحديات المرتبطة بمشاركتها العامة وممارستها لحقوقها بشكل كامل. فكان لها على سبيل المثال رأي متفاعل مع القضايا الوطنية على اختلافها بدءًا من شؤون حياتها مرورًا باحتياجات مجتمعها ووصولاً إلى موقعها المتقدم على جبهة صنع القرار الإداري والسياسي. ولقد كشفت لنا هذه الأزمة الصحية الطارئة عن وضع مختلف وجديد تُقبِل عليه المرأة البحرينية بروح وطنية عالية وفي كافة مجالات العمل والإنتاج وخصوصًا في الصفوف الأمامية ضمن عمليات إدارة الأزمة التي يديرها فريق البحرين الوطني بكل اقتدار وفعالية. وهو ما يضع المرأة في مواجهة غير مسبوقة مع تحد مستجد يستنفر العالم جهوده وموارده لمكافحته، وتنادي المنظمات الدولية بضرورة أن تراعي خطط الاستجابة الوطنية لمنظور ومكوّن المرأة وخصوصًا في المناصب القيادية ومواقع صنع القرار.وبحسب ما تؤكده أحدث المؤشرات الوطنية فإن مشاركة المرأة البحرينية بعيدة كل البعد عن وجود أي مظاهر إقصاء أو تمييز أمام مشاركتها. وهو أمر يتسق مع صحة التوجهات الوطنية ووجاهة السياسات العامة للدولة، التي تراعي في كافة تفاصيلها منهجيات وآليات إتاحة الفرص المتكافئة بين الرجل والمرأة وإدماج احتياجات المرأة ضمن المسار التنموي العام، والذي تشهد قطاعاته ازديادًا مضطردًا لمشاركة المرأة، كمًّا وتأثيرًا، وخصوصًا في مواقع صنع القرار السياسي والتنفيذي وفي المهن النوعية.وتمثل نسبتها البالغة 75%، (انظر الانفوجرافيك المصاحب للمقال)، ضمن صفوف الفريق الوطني المسؤول عن مكافحة فيروس (كوفيد-19) دليلاً ساطعًا على طبيعة الدور وحجم المسؤولية التي تتولاها المرأة، وعلى وجه التحديد في ميدان العمل الطبي والصحي بالرغم من المخاطر المحيطة بالعاملين في هذا المجال. كما تشير الإحصائيات الوطنية إلى ارتفاع حضور المرأة على جبهة التطوع وفي مختلف المهن التي استدعت رجوعًا عاجلاً للمتقاعدين والمتقاعدات من أصحاب الخبرة والاختصاص في هذه الظروف، وبنسبة بلغت 49% من الأعداد التي تقدمت للتسجيل على «المنصة الوطنية للتطوع».ونجد في مقابل هذه الأرقام المرتفعة نسبيًا، حضورًا لا يقل أهمية للمرأة البحرينية في قطاع التعليم الذي لم يشهد أي انقطاع على خدماته، بالرغم من الغلق الكامل للمدارس والجامعات والمعاهد التدريبية. فكما هو معروف فإن نسبة المرأة في هذا القطاع تتجاوز 70%، وترتفع نسبة الاكاديميات في قطاع التعليم العالي لتصل إلى 47%، في حين تبلغ نسبة المعلمات المتخصصات في مجال المحتوى الرقمي تبلغ 72% من اجمالي المعلمات.وتشير هذه الأرقام مجتمعة إلى حجم تأثير الكوادر التعليمية النسائية ضمن الجهود التي أدارت عملية التعليم «عن بُعد»، التي تمثلت في تقديم الدروس على شاشات التلفزيون بشكل مرحلي، لتستمر بعد ذلك على المنصات الافتراضية وبمساهمات لافتة للمتطوعين والمتطوعات ضمن الكادر التعليمي الذي ساند بدوره أسر الطبيبات على الصفوف الأمامية في لفتة مؤثرة ونبيلة لمتابعة التحصيل العلمي لأبنائهم، وهي لفتة لا تقل نبلاً عن قرار سمو ولي العهد في السماح لأزواجهن بالعمل من المنزل كمراعاة إضافية لظروف تلك الأسر.ولا نغفل في هذا السياق، ما لعبته التوجهات الرسمية من دور كبير أسهم إيجابًا في الحد من الأضرار الاقتصادية وتبعاتها الاجتماعية على الأسرة البحرينية، فمن جانب اعتمدت الحكومة في تسيير أعمالها وتقديم خدماتها على أنظمة العمل المرنة، وكان من ضمن أهمها القرار الذي أصدره عاهل البلاد المفدى بإلزام مؤسسات القطاع العام بعمل المرأة التي تراعي أبناء في سن التمدرس بالعمل من المنزل، وتبعتها سلسلة من القرارات الحكومية التي حرصت على تطبيق سياسات التباعد المكاني في مؤسسات العمل، وهو ما شجع العديد من مؤسسات القطاع الخاص على الأخذ به كسياسة احترازية.وقد أسهمت تلك التوجهات الوطنية التي اعتمدت بشكل كبير على الجاهزية الإلكترونية للدولة في المحافظة على العديد من المهن التي كان من الممكن أن يتم الاستغناء عنها بهدف التحكم بمستويات البطالة، الذي يعتبر التحدي الأكبر حتى لأقوى الاقتصادات العالمية، حيث بلغت نسبة البطالة للقوى العاملة النسائية في الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 14% مقارنة بـ 3% لذات الفترة من العام الماضي (2019)، في حين توضح المؤشرات المرصودة أن نسب المشاركة الاقتصادية للمرأة البحرينية قد ارتفعت بنسبة طفيفة إذا ما قورنت بمثيلتها لذات الفترة من العام المنصرم، إذ بلغت نسبة مشاركة المرأة في القطاع العام (52%) في الربع الأول العام الحالي مقارنة بـ (50%) للربع الأول من 2019. وبلغت نسبة مشاركة المرأة البحرينية في القطاع الخاص من إجمالي البحرينيين في القطاع الخاص (35%) في الربع الأول من عام 2020 مقارنة بـ(34%) للربع الأول من 2019، وبارتفاع ملحوظ للمرأة في قطاعات حيوية، كالقطاع المصرفي (37%)، والتكنولوجيا المالية (35%)، والقطاع الصناعي (20%) وقطاع المعلومات والاتصالات (37%).ويبقى جانب مشاركتها في مجال العمل الحر، المجال الأكثر تأثرًا بالأزمة الصحية وخصوصًا الأعمال التجارية ضمن المؤسسات المتوسطة والصغيرة. ولم تغفل الدولة أبدًا عن التحديات التي تواجهها هذه الشريحة المهمة من الاقتصاد الوطني التي تستمر بدعمها بحسب التوجيهات السامية لعاهل البلاد المفدى، للحفاظ على استقرار القطاعات الأكثر تضررًا من خلال برامج الدعم المختلفة المخصصة لذلك. وتشكل المرأة البحرينية (42%) من السجلات التجارية الفردية النشطة، ومن ثم يصبح من الضروري أن يتم التقليل من احتمالات التعثر، خصوصًا في ظل تملك النساء المرتفع نسبيًا لمشاريع في قطاع الجملة والتجزئة بنسبة 41% وقطاع المطاعم والفنادق بنسبة 46% وقطاع التعليم بنسبة 54% مع أهمية التركيز في المرحلة القادمة على السجلات الافتراضية حيث تشكل المرأة البحرينية 48% من المالكات لسجلات افتراضية. ومن هنا تنطلق جهود المجلس الأعلى للمرأة خلال الفترة الحالية لاستيعاب التوجهات المستجدة والاستفادة من الدروس الناتجة عن الأزمة، بتحديث أساليب العمل والتخطيط المرن والدقيق لمرحلة التعايش مع «كورونا» لحين التشافي التام منه، ليس صحيًا فقط، وإنما اقتصاديًا واجتماعيًا وأسريًا، وهو ما يتطلب منا اليوم أن نعيد النظر في أولويات العمل التي تتطلب جهودًا تشاركية من أجل العمل على التطوير الشامل للنظم الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، بشكل يمكنّنا من التنبؤ المسبق للأزمات والقدرة التلقائية على استيعاب أضرارها، مهما كانت أسبابها، لا سمح الله.ومما لا شك فيه أن هذه الجائحة قد خلّفت العديد من الدروس المستفادة للحكومات أو المؤسسات أو الأفراد؛ كتأثير التكنولوجيا الحديثة على الأمن الاجتماعي وأهمية الوعي المجتمعي المسؤول، والحاجة لتطوير منظومة التعليم الذكي والرقمي والتطبيقات المتقدمة والتدريب النوعي، والاعتماد على المنصات الافتراضية في مجال العمل والتجارة وتقديم الخدمات الأساسية. ويؤكد الخبراء الاقتصاديون في هذا السياق أهمية توظيف التطور التقني والتحول الرقمي لتبني سياسات وأنظمة مرنة تتيح فرص المشاركة الاقتصادية العادلة والمتكافئة لكافة أفراد المجتمع ومنها المرأة، وذلك من خلال إزالة القيود المكانية والزمنية للعمل والتي كانت تحد من مشاركة المرأة الاقتصادية في بعض القطاعات أو تلقيها للخدمات الأسرية، وهو ما ساهمت الأزمة الصحية العالمية في تسريع تنفيذ متطلباته وتحقيق غاياته وأهدافه. ونرى أنفسنا محظوظين بالرؤية الاستباقية لمملكة البحرين وتطلعاتها الهادفة إلى تحقيق أمن اقتصادي واجتماعي مستدام في إطار من التوازن المالي والقائم على الشراكة المتكافئة بين المرأة والرجل، التي تبدو مستعدة لكل ما هو جديد لما تتمتع به من توجهات استشرافية تأخذ في حسبانها الحاجة إلى المرونة في العمل والفعالية في الأداء وتقديم حلول مبتكرة تسرع من استئناف الحياة بوتيرتها المتسقة مع النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والتنمية البشرية المنشودة.وبالعودة إلى ما بدأنا به، نجد أن للمرأة البحرينية في كل ما ذكر موقعًا بالغ الأهمية في مواجهة مختلف التحديات، تنطلق في ذلك من واقع مشاركتها في البناء التنموي الذي وصل لدرجة عالية من النضج بشكل لم يعد يسمح لنا اليوم بأن نتساءل.. إن كان للمرأة البحرينية من دور فيه. { الأمين العام للمجلس الأعلى للمرأة
مشاركة :