"طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي.. سيرة الحب كأروع ما تروى | حكيم مرزوقي | صحيفة العرب

  • 7/4/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

هو دليل على أن العرب ـ في جاهليتهم كما في إسلامهم ـ هم أجمل من تحدث عن الحب؛ إنه “طوق الحمامة”، فيه يغوص علي بن حزم الأندلسي في بحار العشق، يفركه مثل رمانة، ويتركه مرجعا يتباهى به كل عربي مسلم يتهمه الآخرون بقلة ذات الحيلة والمعرفة في الحب. ألا تكفي برهانا على ذلك عبارة واحدة تقولها أميرة عاشقة “لا تحبس حمامي فهو عاشق”. لنبدأ من قراءة سينمائية آسرة، حملت توقيع المخرج والفنان التشكيلي التونسي الناصر خمير، في رائعته “طوق الحمامة المفقود”. كان فيلما لو شاهده ابن حزم الأندلسي في عصرنا، لصرخ إعجابا “هذا ما أردت قوله تماما.. وزدت عليه شيئا جميلا يا ناصر”. أغلب من شاهد ذلك العمل السينمائي الذي يعود إنتاجه إلى أوائل تسعينات القرن الماضي، بادر إلى اقتناء نسخته العربية ـ أو المترجمة إلى عشرات اللغات ـ من كتاب “طوق الحمامة في الألفة والألاف”، للأندلسي علي بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي، من مواليد قرطبة (994 ـ 1064)، ويعد من أكبر علماء الأندلس تصنيفا وتأليفا، إضافة إلى أنه إمام حافظ وفقيه عرف بمذهبه الظاهري. مرجع للعشق خط ابن حزم كتابه هذا، وهو في سن لم يتجاوز فيها عقده الثالث (28 عاما) أي في قمة نضجه العاطفي والفكري وفق مقاييس ذلك العصر. واقترب المؤلف من أشد المواضيع حساسية وإرباكا في التراث الإسلامي، إلا أن بيئته القرطبية المترفة، كانت تسمح له بذلك وسط نسيج ثقافي واجتماعي يتميز بالتسامح والإنصات إلى المغاير والمختلف ضمن ما يتيحه الفضاء الأندلسي المنفتح آنذاك. وقبل الدخول في تفاصيل الكتاب الذي لا يزال إلى الآن مرجعا للعشق، يتباهى به كل عربي مسلم يتهمه الآخرون بقلة ذات الحيلة والمعرفة في الحب، فإن الفيلم يقيم الدلالة على أن العرب ـ في جاهليتهم كما في إسلامهم ـ هم أجمل من تحدث عن الحب، وفرّكه مثل رمانة، كما هو الشأن في هذا الشريط المستوحى من “طوق الحمامة”. رمانة يخط عليها الفتى حسن، كل مرادفات العشق. لعب مريد أكبر الخطاطين في قرطبة الشطرنج عبر الحمام الزاجل مع أميرة سمرقند، يبعثها إليها بنقلات قد تدوم شهورا عالقة في الفضاء، فتكتب إليه عبارة “لا تحبس حمامي فهو عاشق”. تتقلب الأمور في الأسواق والمكتبات وحال السياسيين والمتمردين لكن العشق يبقى ناظما ومفتاحا وميزانا لكل شيء تتقلب الأمور في الأسواق والمكتبات وحال السياسيين والمتمردين، لكن العشق يبقى ناظما ومفتاحا وميزانا لكل شيء، ضمن كادر سينمائي مدهش، تناوبت على تأثيثه أسماء جمعها ناصر خمير، من مختلف الثقافات كالإيرانية نافين تشاودري، والسورية نينار إسبر. وبالعودة إلى المرجع والمنطلق الذي بنا على أساسه ناصر خمير، وغيره من التشكيليين والموسيقيين أعمالهم، فإن كتاب “طوق الحمامة في الألفة والألاف” يعدّ من أروع وأجمل ما خط من أدب العصر الوسيط في دراسة الحب، ويكفي أنه قد كتبه فقيه وعالم وشاعر أندلسي يثير الجدال حوله كيفما ذهب. الإمام أبومحمد ابن حزم، في رائعته “طوق الحمامة” يغامر ويغوص في بحار سر الحب متسلحا بكل ما أوتي من معرفة عميقة وفقه رصين، وغرابة تفاجئ قارئه إلى درجة السؤال عن جدوى المعرفة دون حب، والحب دون معرفة.. إنها المعضلة التي بإمكانها أن تنسف كل وقار فلسفي. اقترب ابن حزم في كتابه من كل ما تعتقده العامة محرّما، وكذلك من كل ما تظنه الخاصة “غير لائق” لمثل من هم في رفعته ومقامه. الكتاب ظل “هفوة” حتى في نظر الأزمنة والأقدار لعالم في مقام ابن حزم الأندلسي، فتجاهلته المكتبات وكأنه سقط سهوا، إذ كان في حكم الكتب المفقودة في القرون المتأخرة، فلم يذكره صاحب “كشف الظنون”، ولا البغدادي في تذييله عليه، حتى اكتشفه عام 1841 المستشرق الهولندي رينهارت دوزي، حيث عثر على نسخته الوحيدة في مكتبة جامعة ليدن بهولندا، فعكف على دراستها وأفاد منها في كتابه “تاريخ مسلمي الأندلس” الذي نشره عام 1861. ذاعت شهرة “طوق الحمامة” فلقي إقبالا كبيرا، لاسيما لدى الأوروبيين الذين تلقوه بالنقد والتحليل، وتُرجم إلى لغات مختلفة (كالإنجليزية والروسية والألمانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية…) فلقي هذا الكتاب اهتمام الباحثين والدارسين نظرا لـ”موضوعه الإنساني الذي يمسّ خبايا النفس في الحب والعاطفة، ونزعات النفس وميولاتها العاطفية” كما يقول أحد المستشرقين ملمحا ـ وبشكل ضمني ـ إلى أن العرب أبعد الناس حديثا وتطرقا للحب، في حين أن بعض ما أورده ابن حزم في كتابه من سير وقصص حب لدى العرب، مشرقا ومغربا، كفيل بأن يجعلهم على قمة أولى من يحب ومن يعشق. لا شيء يخلّد الشعوب ويثبت أسماءها في سجلات التاريخ غير قصص الحب، لذلك يحق للعرب أن يتباهوا برجل خلد قصص عشقهم، شرحها ودافع عنها بالمنطق والعقيدة. أمر لا يجب إهماله، وهو أن الحب عاطفة لا يشعر بها إلا المكتفون من المرفهين والميسورين، بدليل أن ابن حزم كان والده من أحد كُبراء مدينة قُرطبة، بالإضافة إلى أنّه عُرِف بذكائه الحادّ، ومؤلفاته الغزيرة مثل كتاب “الإيصال إلى فهم كتاب الخصال”، وكتاب “الخصال الحافظ لجُمل شرائع الإسلام”، وله في الفقه كتاب “المُجلَّى”، وكتاب “المُحلَّى في شرح المُجلّى بالحُجج والآثار”، وكتاب “اختلاف الفقهاء الخمسة مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وداود”، وكتاب “التصفّح بالفقه”، كما أنّ له في الحديث كتاب “الجامع في صحيح الأحاديث”. كل هذا التفقه في الإرث العربي والإسلامي، جعل ابن حزم يؤلف كتابه “طوق الحمامة” وليس العكس أي أن الحب نتيجة حتمية لمسيرة حافلة من المعرفة والتبحر في العلوم. لم يفصل صاحب هذه الرائعة الأدبية، حياته الشخصية عما ذهب إليه من آراء وتفسيرات وتآويل، ذلك أنه ألف كتابه في مدينة شاطبة، وأراد من خلال تجربته تلك أن يؤكد فكرة مفادها أن الكتابة تجربة شخصية أو لا تكون، وذلك بدليل أن دارسين كثيرين يقرنون “فعلته” تلك بتجربة ذاتية كان قد عاشها مع فتاة تختلف عنه طبقيا وثقافيا واجتماعيا، الأمر الذي كرس لديه قناعة مفادها أن الحب يشي بتعقيدات نفسية لا يمكن فهمها بسهولة؟ يذهب ابن حزم أبعد من ذلك في تفسيره لظاهرة الحب، مما يجعله عالما نفسانيا بامتياز، سابقا عصره في توصيف العاشق من حيث القراءة السيكولوجية، إذ يقول في أحد فصول كتابه “من علاماته الانبساط الكثير الزائد، والتضايق في المكان الواسع، والمجاذبة على الشيء يأخذه أحدهما”. لا يهمل ابن حزم ضروبا أخرى من الحب والعشق والوله والغرام، حسب تصنيفاته شديدة الدقة والصرامة، إذ تحدث عن حالات تعدّ “شاذة وغريبة” في عالمنا الراهن، في حين سمح له عصره وجرأته بالتصدي إليها دون صدام مجتمعي في ذلك العصر الذي عرف بالتسامح. ونسبر في “طوق الحمامة” مع قراءات متخصصة لأدونيس وغيره، آراء بمثابة الغاية في الدقة والتوصيف السريري، كأن تعلم أن من علامات الحُبّ، إدامة النظر، والإقبال على الحديث، والإنصات الجيّد، كما يُعَدّ الإسراع إلى مكان المحبوب علامة على الحُبّ، وتعمُّد الجلوس على مقربة منه، كما أنّ البكاء من علامات الحُبّ، إلّا أنّ المُحبّين يتفاضلون فيه؛ فمنهم من هو غزير الدمع، ومنهم من هو عديم الدمع. أكبر من كتاب ويصف ابن حزم نفسه بأنّه من النوع الثاني الذي لا تدمع عينه، وممّا قال فيه “والعين باب النفس الشارع، وهي المُنقّبة عن سرائرها، والمُعبّرة لضمائرها والمُعربة عن بواطنها”. باب من أحبّ في النوم: وهو الأهون، والأسهلُ في الحُبّ في نظر ابن حزم؛ فالمُحبّ يُكثِر من رؤية محبوبه في أحلامه، وممّا قال فيه “من الخطأ العظيم أن تشغل نفسك بغير حقيقة، وتُعلّق وهمك بمعدوم لا يُوجد”. “طوق الحمامة في الألفة والألاف” أكبر من كتاب، وأروع من قصة تُروى، ذلك أنه يدرج لدى النقاد والدارسين في خانة النفائس، وروائع الكتابات التي تحدثت عن الحب. هل ثمة من تحدث عن الحب أكثر من ابن حزم؟ هل قال عرب الأندلس أروع من هذا؟ هل رق قلب أكثر من قائل “الحب أعزك الله.. أوله هزل وآخره جد؟”. ذهل الغرب الأوروبي لعربي، يعتبرونه جلفا، وصحراوي الطباع، كيف يكتب مصنفا في الحب، وبهذه الروعة، إلى درجة أن اعتبروه واحدا من أروع ما قيل في الحب عبر التاريخ.. لا يعرف قيمة الواحات إلا من خبر الصحارى. إذا قيل لك أيها العربي “تحدث عن الحب” فليس لديك غير كتاب “طوق الحمامة” لابن حزم الأندلسي، وليس أمامك سوى فيلم “طوق الحمامة المفقود” للتونسي ناصر خمير.. الحب له عنوان واحد عند العرب. “الحب ـ أعزك الله ـ أوله هزل وآخره جد”.. من منا لا يتذكر هذه العبارة.. ومن منا لم يتوقف عند هذه الكلمة بتروّ وإجلال. ابن حزم الأندلسي، الفقيه الذي علّم الفقهاء الحب وآل على نفسه أنّ للأندلس رسالة أخرى.. اسمها الحب.. ولا شيء غير الحب. المذهب الظاهري الذي تزعمه ابن حزم، ليس بمثل تلك السذاجة التي تخيلها الآخرون، ولم يكن على سوية الحماقة في مخيال الحمقى والمغفلين.. إنه لم يكن يريد من الحب سوى الحب.. ومن الله غير حب الله. إذا كان للعرب أن يفتخروا بكتاب عن الحب فهو كتاب ابن حزم الأندلسي، وإذا كان لديهم سيد يتحدث عن الحب بجدارة فهو ابن حزم الأندلسي، وقد قال كل شيء في كتاب كنا قد درسناه مراهقين في مدارس تونس الثانوية، وضمن مناهجها التعليمية التي أرساها الكبير الشاذلي القليبي. كم جميلا أن تعرف وتتعرف للحب، تبحر في أهوائه وتلج جميع فصوله وأنت في سن تتلمس فيها الحب. كم لطيفا أن تحب ـ وفق أصوله العربية الأندلسية ـ وعن طريق شخص يشبهك وتشبهه.. أليس الحب ضربا من طوق حمامة مفقود؟ ليس الأمر حديثا عن كتاب يعرفه القاصي والداني وكل من عشق الأدب العربي في أروع تجلياته، لكنه اعتراف بأروع ما قالته العرب في ما عشقته العرب. لم يغفل ابن حزم الأندلسي في كتابه “طوق الحمامة في الألفة والألاف” فصلا إلا وتناوله في مجال العشق، وبظرافة قل نظيرها، لا بل لم يهمل كل شاردة وواردة.. هل قرأنا أعجب من “طوق الحمامة” كمخطوط و”طوق الحمامة المفقود” كشريط سينمائي آسر؟ على فكرة.. كتاب ابن حزم الأندلسي، درس في علم النفس التحليلي من قبل أن يخلق سيغموند فرويد، وتلامذته الأشاوس. إنه أول كتاب يمكن للمرء أن يتصفحه وقد ظن أن العرب لا يفقهون في علم النفس البشري. “طوق الحمامة” عنوان يحمل معنى في غاية الغرابة، ويحيل إلى ما هو أعجب.. إنه شرح وقد تورط صاحبه في التفسير والتنوير والتحرير.. أليست التبريرات هي التي تخلق المعجزات؟ “طوق الحمامة في الألفة والألاف”.. ننصح المراهقين والشباب بقراءته قبل الكبار، ذلك أنه درس في الألفة والألاف.

مشاركة :