من ثوابت التاريخ العراقي الأسود الذي كتبه الإيرانيون، ليس في 2003 وما بعده، بل قبل ذلك بكثير، أن باقر الحكيم، وشقيقه عبدالعزيز، وهادي العامري قائد منظمة بدر ذراعهما المسلح، كانوا أول المؤتمنين الذين استخدمهم الخميني في حروبه التي أراد بها احتلال العراق، بل أكثرهم إخلاصا له وتفانيا في خدمته، دون جدال. ولكي لا نتعب في البرهنة على ذلك نُذكر هنا بتصريح مسجلٍ تلفزيونيا أدلى به المدعو علي الياسري الأمين العام لميليشيا الخراساني قال فيه إن “أغلب قادة الحشد الشعبي هم من العراقيين الذين شاركوا في الحرب العراقية الإيرانية إلى جانب الحرس الثوري، وإن دماء العراقيين التي سالت في تلك الحرب لم تخرج عن دائرة الدفاع عن ولاية الفقيه”. ومعروف أن المجلس الإسلامي الأعلى للثورة الإسلامية لصاحبه باقر الحكيم، ثم شقيقِه عبدالعزيز الحكيم، كان المكلَّف الأول، والوحيد، بتجنيد “المجاهدين” للقتال في صفوف الجيش الإيراني والحرس الثوري في حرب الثماني سنوات. ورغم أن إيران ارتأت، بعد ذلك، تنحية المجلس الإسلامي الأعلى عن قيادة البيت الشيعي الإيراني، وتقليم أظافر آل الحكيم، وسلخ منظمة بدر عن مجلسهم وإلحاقَها بجيشٍ آخر جديد أسمته الحشد الشعبي، حرصت على أن تُبقي لهم مقعدا في صدارة العراقيين المسجلين إيرانيين في دفاتر القتيل قاسم سليماني، قبل مقتله وبعده، وعدم إسقاطهم من قائمة أوراقها الفاعلة، لاستخدامهم، عند الضرورة، في لعبة توزيع الأدوار، وحسب الظروف. وعلى امتداد سبع عشرة سنة ظلت اليد الإيرانية الحاكمة الخفية حريصة على حماية آل الحكيم، والتستر على اختلاساتهم واستثماراتهم واغتصابهم للقصور الرئاسية والمباني الحكومية والأراضي والأموال ثمنا لذلك التاريخ الطويل من التفاني في خدمة ولاية الفقيه. ورغم أن عمار الحكيم، من حين إلى آخر، يحاول، تقليدا لمقتدى الصدر، أن يُظهر نفسه مستقلا عن الحشد الشعبي، ومناديا باستقلالية القرار العراقي، وبسلطة القانون، وبتأييده لمطالب المنتفضين، إلا أنه كان مفضوحا لدى الشعب العراقي، ومعروفا بكونه الأخ الشقيق المولود من أمٍ واحدة وأبٍ واحد مع فصائل الحشد وحزب الله اللبناني والحوثي وباقي الشلل الأخرى المرتمية بأحضان الولي الفقيه. ومن المعلومات المنسية أن فكرة الحشد الشعبي إيرانيةٌ خالصة سبقت ظهور داعش بكثير، وقبل فتوى الجهاد الكفائي التي أصدرها السيستاني بزمن طويل. وكان مجلس آل الحكيم أول المتطوعين الأوفياء لضخ “المجاهدين” في ميليشيات هذا الحشد، والدفاع عنه، وحمايته من أعدائه المتربصين به وبسلاحه، بالتعاون والتفاهم الكاملين مع نوري المالكي ومقتدى الصدر وباقي الأعضاء الأقوياء الآخرين في البيت الشيعي الموكل الرسمي الوحيد بإدارة مصالح إيران في العراق الذي هو، بموجب عقيدتهم، إقليمٌ عائد إلى الإمبراطورية الفارسية، بعد غياب أربعة عشر قرنا من الزمان. وإلى هنا نتوقف، ونبدأ بالحديث عن قيام تحالف “عراقيون” الذي أعلِن تشكيلُه في بغداد مؤخرا، والمكون من عدد من البرلمانيين المعروفين بالولاء الإيراني الثابت العريق. فقد وصفه رئيسه، عمار الحكيم، بأنه “تحالف سياسي برلماني جماهيري ينطلق من الدولة، ويتحرك في فضاء الدولة، ويعود حاصلُ جهده إلى الدولة”، وأنه “يدعم الدولةَ المُقتدرةَ القويّةَ ذاتَ السيادةِ الوطنيةِ والإرادة الجماهيريةِ، بعيداً عن المحاصصات، وخارجَ الصفقات المشبوهة، والتفاهمات المؤقتة غير المجدية”. و”يؤكد على المطلب الرئيس بإجراء انتخابات مُبكرة نزيهة وعادلة تضمن حقوق الجميع، بلا تمايز أو تضليل”. والحقيقة أن هذا الكلام الجميل لو كان صادرا عن غير عمار الحكيم، وريثِ عمه باقر ووالدِه عبدالعزيز، لأمكن قبضُه بجدٍّ، وتصديقُه. ولكن وقائع صارخة ووثائق عديدة مكدسة تؤكد أن تشكيل التحالف الجديد، “عراقيون”، فكرةٌ إيرانية خالصة هدفها خلط الأوراق، وكسب الوقت، وتبريد حماس المنتفضين، وتخديرهم، بعد فشل حملات تصفية انتفاضتهم بالقتل والاعتقال والاختطاف، في انتظار الانتخابات الأميركية القادمة التي يراهن المعممون الإيرانيون على سقوط عدوهم اللدود ترامب فيها، وعلى فوز حليفهم القديم باراك أوباما العائد بثياب نائبه السابق جو بايدن وحزبه الديمقراطي. أما الإشكال هنا فيكمن في أن مصطفى الكاظمي، من أول أيامه في الرئاسة، أوحى للجماهير العراقية الغاضبة، بكلامه الكثير وفعله القليل، بأنه البطل الوطني الحقيقي القادم لاستعادة هيبة الدولة وسلطة القانون واجتثاث الفساد. وهذا، طبعا، لا يتحقق إلا بقطع أيدي المختلسين الكبار، وهُم وكلاءُ السيد الإيراني، ثم تجريد الحشد الشعبي من سلاحه، وهو سلاحٌ إيراني، فلجمُ قادته المتمردين على الدولة وعلى رؤسائها وحكومتها وجيشها ودستورها وقوانينها، وهم الأحجار الكريمة المملوكة من قبل المرشد الأعلى الإيراني، بامتياز. ومن الثوابت في المسألة العراقية، من سبع عشرة سنة، أن إيران هي الحاكمة. وعليه فليس معقولا ولا متاحا أن يخرج عمار (الصغير) ورفاقُه الصغار من خيمة الولي الفقيه، وأن يصطفَّوا مع الكاظمي المنادي بالسيادة الوطنية الكاملة، وبضمان حياد العراق، وبمنع إيران وأميركا من اتخاذ العراق ساحة لتصفية حساباتهما، وإعادة الوطن العراقي إلى أهله كما كان، موحدا عزيزا قويا، بلا وصاية أجنبية، ولا احتلال. فهل يعقل أن يكون عمار الحكيم، والذين معه في تحالف “عراقيون”، قد صحت فيهم الوطنية أخيرا، وامتلكوا الشجاعة الكافية، فجأة، فقرروا الاصطفاف مع رئيس وزراء تعاديه فصائل الحشد، كافة، ويتطاول عليه أبوعلي الولائي وقيس الخزعلي، وهما أكبر قائدين في الحشد الشعبي، ويتحدّيانه بمسيراتٍ عسكرية استفزازية مُهينة في عقر داره، ويهدّدانه بالقتل، ويعلنان، صراحة، أن برلمانهما سيقوم باستجوابه، ثم إسقاطه وطرده في النهاية، لا من الرئاسة فقط بل من العراق كله كذلك. والأكثر مرارة في لعبة تبادل الأدوار هذه أن الكاظمي جعل العراقيين يصدقون بأنه، باعتقاله أعضاءَ خلية الصواريخ من مسلحي حزب الله، قد حزم أمره، وقرر أن يبدأ حربه المقدسة ضد من أسماهم بـ”العابثين” بالأمن الوطني، حتى لو كانت بظَهرهم إيران بقضها وقضيضها. ومن تابع أفراح العراقيين وأحلامهم الوردية على مواقع التواصل يدرك حجم الخديعة تلك. ثم فجأة يجدهُ العراقيون قد استدار إلى الوراء، وزار المعتقلين الذين أطلقَ سراحَهم قضاءُ مدحت المحمود وفائق زيدان “لعدم كفاية الأدلة”، ثم اعتذر لهم، وراح يصالحُهم مع قادة جهاز مكافحة الإرهاب الذين قام حزب الله باعتقالهم وقايض بهم لإطلاق سراح مسلحيه. ويعلن، فوق كل ذلك، صراحة وبالقلم العريض، أنه يحترم “هذين الجهازين”، ويشدد على “عدم تفريقه بين الأجهزة من (جيش وشرطة وحشد ومكافحة إرهاب)”. وتعالوا نتساءل، هل الكاظمي وطني صادق في عزمه على تحرير الوطن وأهله من الاحتلال والفساد والعمالة للأجانب الأميركيين والإيرانيين، ولكن بطول بال ونفس طويل، فيربح معركة ويخسر معركة في حربه الطويلة هذه، ولا يتوقف، وأن عمار الحكيم قد انسلخ من جلده الإيراني وصار مجاهدا، مثل الكاظمي، ضد الأجانب الأميركيين والإيرانيين، ومجندا معه ضد أعدائه الحشديين والمالكيين والعامريين والخزعليين والولائيين، أم أنها لعبة أخرى من ألعاب الضيوف المتقاتلين بالصواريخ الفارغة والبيانات النارية الكاذبة على الأرض العراقية، وبدماء العراقيين وأرزاقهم وكراماتهم؟. ربما. فالخبر، اليوم، بفلوس والخبر، غدا، ببلاش.
مشاركة :