لم يطق جسد سعود الفيصل أن يسكن أو يركن للاستسلام انتظارًا للأجل المحتوم حتى اللحظات الأخيرة! لم يتحمل لسانه الصمت، فتغلب على آلامه، وهو الذي كثيرًا ما لجأ للدبلوماسية التي تتخذ أشكالًا متعددة، فتنقل رأيه وموقفه بوضوح دون أن يتحدث!. لقد ظل عقل سعود الفيصل يعمل بكفاءة واقتدار حد الدهشة لآخر أيام حياته.. شارحًا ومحذرًا وموجهًا وناصحًا حتى استسلم الاثنان.. الجسد والعقل، وخرجت المملكة والأمة العربية كلها تنعاه!. هكذا لم يمت سعود الفيصل إكلينيكيًا ولا سياسيًا مثل آخرين من نظرائه الذين غيّبتهم حِمَم الخلافات الداخلية والاستقطاب السياسي. تذكرت على الفور صورة نادرة نشرتها في صفحة «السياسة» بجريدة الاقتصادية قبل أعوام وتحديدًا في أواخر مارس عام 1998م لسيارة يقودها الأمير سعود ويجلس عن يمينه في الكرسي الأمامي عمرو موسى وفي الكرسي الخلفي فاروق الشرع. لقد كانت بحق صورة نادرة ومعبّرة في تلك الفترة، أو عن تلك الفترة من فترات التنسيق العربي، قبل أن ينزل الشرع، وينكبُّ عمرو موسى مضطرًا على الأوضاع الداخلية في مصر. قبلها بيوم واحد كان ثلاثتهم يتناولون الإفطار مع الشهيد رفيق الحريري قبل أن يجتمعوا في قصر المؤتمرات بالرياض.. وكنت هناك.. كان ما كان وتخلَّف الاثنان موسى والشرع عن سيارة سعود الفيصل لأسباب متفاوتة، لكن السائق السعودي الماهر للدبلوماسية العربية مضى بسيارته بين الجماهير، مطلقًا صيحات التحذير، تارة مما يجري في لبنان وسوريا، وأخرى مما يجري في العراق، وثالثة في اليمن، ورابعة وخامسة قبل أن يخرج عن دبلوماسيته المعهودة التي لم تطق الصمت ولا الإيماء تمامًا مثل لسانه العربي الذي راح يصدح بالحق لآخر أيام حياته. .. أنا لا أزال في طور النقاهة.. وحالتي في العملية الجراحية أشبه بحال الأمة العربية.. قالها الأمير سعود وهو العائد لتوّه من قمة شرم الشيخ العربية التي كانت تُلملم أوراقها الروتينية المعتادة؛ قبل أن يفيق الجميع على صوت سعود الفيصل معترضًا على ما احتوته رسالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.. كيف تدعو روسيا للسلام وهي التي لم تزل تدعم سفاح دمشق؟! قبلها بسنوات كان الفيصل يوجّه سؤالًا مماثلًا لإسرائيل: كيف يتحدث نتنياهو عن السلام وإسرائيل بتاريخها الدموي لا تزال تنتج أسلحة ذرية فتاكة؟! وبعدها بسنوات كان الأمير سعود يوجه سؤالًا مشابهًا لدول 5 + 1، إذا كانت هذه الدول تسعى لإعطاء دور لإيران في المنطقة، فهل يعني ذلك أن تلتف على مصالح دول المنطقة لإغراء إيران بمكاسب على حسابنا؟! وامتدادًا لحبل الأسئلة الطويل ستظل أسئلة سعود الفيصل حاضرة في الذهن العربي ما بقيت أزماته المستفحلة.. ومن ذلك سؤاله لأبناء العراق: متى تتوقف تلك الزمرة المدفوعة من قبل أطراف خارجية عن إشاعة الفرقة والتناحر وارتكاب الجرائم وبث الكراهية وغرس الحقد في عاصمة الرشيد وملتقى الحضارات؟! توقفت سيارة الفيصل عند هذا الحد، لكنها ستستأنف سيرها من جديد -بالتأكيد- ما بقيت أسئلته -التي هي أسئلة الجماهير العربية- بلا إجابة!. sherif.kandil@al-madina.com
مشاركة :