«سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» هكذا وصف القرآن ليلة القدر في ختام السورة المسماة باسمها، وكم نحن في أمس الحاجة إلى السلام يعمر الأرض التي تضطرب بصراعات دموية، ومخاطر تحدق بأوطاننا. استوقفتني الآية فتأملتها، وكأنني لم أقرأها من قبل، وقلبت في كتب التفسير أنظر ما قالوه في المراد من السلام فيها، وقد لخص الرازي اقوال المفسرين في ثلاثة أقوال: أحدها: (سلام) أي تسلم الملائكة على المطيعين و(أهل المساجد). وثانيها: سلام من الملائكة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وثالثها: سلام من الشرور والآفات (كما ذكره الطبري). لكن هذه الأقوال في رأيي كمتخصص في التفسير وعلوم القرآن لم تقدم لنا بيانا شافيا عن حقيقة السلام الوارد في وصف ليلة القدر من وجهين: الأول: أن بعضها حصر السلام في تحية الملائكة للصالحين من الأمة دون أن يكون هناك نص صريح يبين ذلك. الثاني: أن بعضها الآخر استبعد المسئولية الإنسانية عن حصول هذا السلام أو غيابه، وكأن السلام يتنزل أو تتوقف الشرور دون أن يكون الجهد الإنساني طرفا فيه. إن وصف ليلة القدر بأنها سلام فيما أراه هو أمر في صيغة الخبر، بمعنى أنها تأمر بأن نحرص على نشر السلام فيها، والتوقف عن كل أشكال العنف والعدوان. وهذا شبيه بمعنى قوله تعالى: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) فالمعني: أن من دخل الحرم وجب أن يؤمَّن، وليس المعنى أنه لا يقع فيه أذى لأحدٍ.. بل ذلك قد يقع، وإنما المقصود: أن الواجب تأمين من دخله، وعدم التعرض له بسوء، كما ذكره الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله. والسلام ليس مجرد واجب شرعي يؤمر به المسلم، بل هو صفته الأساسية التي يعرف بها، يقول النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ–: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» رواه البخاري. وفي رواية أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم سُئلَ: أىُّ المسلمينَ أفضلُ؟ قالَ: (من سلمَ المسلمونَ من لسانِهِ ويدِهِ) رواه الترمذي وإسناده صحيح. إن مسئوليتنا الإسلامية تفرض علينا أن نجعل هذه الليلة المباركة سلاما ينعم به المسلمون في أرضهم من الإيذاء والعدوان والانتقام وإيقاد الحروب وإزهاق الأرواح.. وإذا كانت الليلة المباركة لم تعين، بل نلتمسها في العشر الأواخر أو في أوتارها، فهذا يعني أن يكون سلام ليلة القدر ليس مجرد ساعات بل أياما ينعم الناس فيها بالسلام. ومما يشيع روح السلام في تلك الليالي المباركة صلاة القيام أو التهجد التي يحتشد لها المسلمون في المساجد، فهي تمنح أصحابها سلاما داخليا يفيض على قلوبهم وجوارحهم، وعلى علاقاتهم بمن حولهم. لكن الغريب أن بعض الناس مع حرصه على كثرة القيام إلا أنه يؤذي من حوله بلغطه ورفثه، وقد سأل رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ فُلَانَةَ، يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. فقَالَ: هِيَ فِي النَّارِ...) رواه أحمد، وإسناده صحيح. ومما يلهمنا فيض السلام ذلكم الدعاء الذي علمنا إياه الرسول صلى الله عليه وسلم، لندعو به في ليلة القدر حيث سألته عَائِشَةَ- رضي الله عنها- يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟ قَالَ: «تَقُولِينَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» رواه ابن ماجة بإسناد صحيح. لكن بعضنا يريد العفو من الله، ولكن قلما يعفو عن عباده بل تسيطر عليه الرغبة المشحونة في الانتقام، ومن هنا تنبعث شرارة العنف والعدوان.. وقد قال الله تعالى: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (22) سورة النــور. ليلة القدر سلام هي، فلا تقطع حبال المودة بينك وبين زوجك أو ولدك أو جارك أو غيرهم ممن تعيش في محيطهم. ليلة القدر سلام هي، فلا تعكر صفوها بإيذاء أو اعتداء. ونأمل أن يتم التوصل إلى هدنة تضع الحرب أوزارها، في ظل الأوضاعِ الكارثية التي تمرُ بها بعض شعوبنا العربية التي ابتليت بصراعات مسلحة أهلكت الحرث والنسل. ليلة القدر سلام هي، حتى مع من جهل عليك، فلعلك تكون من عباد الرحمن «الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا» (63) سورة الفرقان. أستاذ مشارك بجامعة الدمام
مشاركة :