منذ عام 2000 دعمت روسيا بيلاروسيا بما يصل إلى أكثر من 100 مليار دولار، ولم تتلق مقابل ذلك سوى بيانات سياسية داعمة، وكثيراً ما ينتقد لوكاشينكو بوتين، ويقود القوات الروسية المتشككة داخل الاتحاد الأوراسي، وهو البنية الجيوسياسية التي يطمح إليها بوتين. منذ عام 1994، والرئيس ألكسندر لوكاشينكو يحكم بيلاروسيا بقبضة من حديد، لكن قبضته على البلاد قد ضعفت إلى حد كبير في الأشهر الأخيرة، وقد تنتهي ولايته بعد الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في 9 أغسطس، وإن نتيجة كهذه لن تُحدث ضجة في بيلاروسيا فقط؛ بل ستكون مصدر قلق بالغ للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. في بداية عام 2020، بدا وكأن لوكاشينكو لا يقبل التحدي، واعتقد معظم البيلاروسيين أن زعيمهم القوي سيفوز بولاية رئاسية سادسة، بالأسلوب الفاسد نفسه الذي حقق به انتصاراته السابقة، وحتى معارضو لوكاشينكو التزموا الصمت فجأة، عندما دافع عن السيادة البيلاروسية أثناء مواجهته لخطط بوتين الهادفة "لدمج" دولتي ما بعد الاتحاد السوفياتي. ولكن "كوفيد-19" قد غير كل شيء، لقد وصف لوكاشينكو الجائحة بـ"الهراء"، وكان يكذب مرارا وتكرارا حول نطاق انتشارها وضحاياها، فبدأ الناس العاديون المتأثرون بالأزمة ينقلبون عليه، واستاؤوا بصورة خاصة من الضغط الذي فرضته عليهم السلطات لحضور احتفالات 9 مايو، التي تُخلد ذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية، بدون ارتدائهم كمامات أو قفازات واقية، وذلك من أجل توقيع عريضة تؤيد إعادة انتخاب لوكاشينكو. وفي مطلع مايو اعتقلت السلطات المدون الذي يحظى بشعبية كبيرة، سيرجي تيخانوفسكي، والذي أعلن نيته عن الترشح للرئاسة، ولكن زوجته، سفيتلانا تيخانوفسكايا، تسعى جاهدة لتحل مكانه، وتلقت دعما حماسيا، ففي يونيو امتدت الطوابير لتوقيع عريضة التصويت لمصلحتها في مينسك، وبرست، وغوميل، لمسافة تصل إلى نصف ميل (0.8 كيلومتر)، على الرغم من أن الشرطة دعت الناس إلى الانسحاب. وتشير استطلاعات الرأي التي أجريت في 20 و22 مايو (قبل حظر السلطات لها)، إلى أن 3 إلى 6.24% فقط من الناخبين يؤيدون لوكاشينكو، ويؤيد 12.7 إلى18% منهم تيخانوفسكايا، في حين يحظى الرئيس التنفيذي السابق لشركة Belgazprombank (بيلغازبرومبانك)، فيكتور باباريكو، الذي سجنته لجنة أمن الدولة لجمهورية بيلاروسيا والمرشح الأول للفوز، بدعم 50 إلى 54.9% من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع، وفي 30 يونيو سمحت لجنة الانتخابات المركزية في مينسك رسميا لباباريكو، وتيخانوفسكايا، بالترشح بعد مراجعة توقيعات مؤيديهما، ولكن "انتصار" لوكاشينكو عليهم في 9 أغسطس، سيؤدي بالتأكيد إلى "ثورة ملونة" أخرى في أوروبا الشرقية. بيد أن نهاية لوكاشينكو المحتملة بعد ربع قرن من ممارسة السلطة شبه الدكتاتورية، ليس هو السبب الوحيد وراء أهمية الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في أغسطس، وإن السبب الآخر هو أن التطورات السياسية في بيلاروسيا طالما اتجهت نحو التنبؤ بالأحداث في جارتها العملاقة. لقد بدأ القادة الروس يمشون على خطى لوكاشينكو منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، إذ نُسخت حملة إعادة انتخاب الرئيس بوريس يلتسين لعام 1996، بما في ذلك مناشدتها للروس بعبارة تقول "صوت بقلبك"، مباشرة من حملة لوكاشينكو لعام 1994، وعندما انتُخب بوتين خلفا ليلتسين عام 1999، أعلن عودة "الاستقرار". ومثلما أعاد لوكاشينكو إحياء العَلم والختم البيلاروسيين في الحقبة السوفياتية، أعاد بوتين النشيد الوطني السوفياتي في روسيا، كما اتبع بوتين خطى لوكاشينكو في القضاء على الأحزاب السياسية المستقلة، وإجبار المعارضين على قبول الخروج منفيين، وإلا سيُقتلون (وأحيانا يتعرضون للحالتين معاً)، وفي كلا البلدين، تم تحويل البرلمان والمحاكم إلى إدارات في الإدارة الرئاسية، في حين أن القوانين الروسية المتعلقة "بالعملاء الأجانب"، و"المنظمات الأجنبية غير المرحب بها"، تحاكي التشريعات البيلاروسية. وأخيرا، يعكس استفتاء بوتين الوطني الذي أجري في 1 يوليو والذي سَمح له رسميا بالبقاء رئيسا بعد عام 2024 (من خلال تعديل الحد الدستوري لفترتين متتاليتين)، استفتاء لوكاشينكو في عام 2004، كما أن السماح للروس بالتصويت عبر الإنترنت، أو خارج مراكز الاقتراع، يشبه فترة "التصويت المبكر" التي استمرت أسبوعا في بيلاروسيا، والتي ضمنت فوز لوكاشينكو مرة تلو الأخرى. إذاً، ستكون هزيمة لوكاشينكو في الشهر المقبل ضربة رمزية كبيرة للنموذج السياسي للنسخة الروسية، وستفوق قدرتها على تشكيل مستقبل روسيا قدرة جهود أوكرانيا على التخلص من الدكتاتورية إلى حد كبير، وفي حين أن القادة الروس طالما اعتبروا أوكرانيا دولة تتطلع إلى الغرب وليس إلى روسيا، فإنهم يعتبرون بيلاروسيا أكثر من تثق به روسيا في دائرة أصدقائها وحلفائها. ويكِنُّ الروس احتراما كبيرا للبيلاروسيين لأنهم عانوا خلال الحرب العالمية الثانية، ويتمتع مواطنو البلدين بوضع اقتصادي متساوٍ، منذ إنشاء دولة الاتحاد الروسي وبيلاروسيا، في عام 1999، لذلك، رغم أن معظم الروس توقعوا أن تختار أوكرانيا، في نهاية المطاف، الديمقراطية الليبرالية، وأن ترفض النظام الاستبدادي السوفياتي، فإن تحولا مماثلا في بيلاروسيا يمكن أن يحطم أسس نظام بوتين. واليوم، يرتبط اسم لوكاشينكو ببيلاروسيا بالطريقة نفسها التي يرتبط بها اسم بوتين بروسيا، أو، كما قال الرئيس الحالي لمجلس الدوما الروسي، فياتشيسلاف فولودين، في عام 2014، "لا وجود لروسيا اليوم بدون بوتين". وعلى غرار لوكاشينكو، يحاول بوتين الآن إدامة نفسه في السلطة، وحرمان الناخبين من الادلاء بآرائهم أيا كانت في صنع القرار، والاستفادة من التراث السوفياتي بدلاً من تحديث البلاد، لذا، فإن فشل لوكاشينكو في ضمان إعادة انتخابه سيؤثر بشدة على الناخبين الروس. إن التوترات المتزايدة بين بوتين ولوكاشينكو تجعل الوضع أكثر إثارة للاهتمام، فمنذ عام 2000 دعمت روسيا بيلاروسيا بما يصل إلى أكثر من 100 مليار دولار، ولم تتلق مقابل ذلك سوى بيانات سياسية داعمة، وكثيراً ما ينتقد لوكاشينكو بوتين، ويقود القوات الروسية المتشككة داخل الاتحاد الأوراسي، وهو البنية الجيوسياسية التي يطمح إليها بوتين. وفضلا عن ذلك، ربما لم يعد الكرملين يملك القدرة في التدخل لمصلحة لوكاشينكو، أو لم يعد يرغب في ذلك، وحقيقة أن بيلاروسيا تفتقر إلى الانقسامات العرقية، التي فتحت المجال بسهولة للتوغلات الروسية في أوكرانيا، تُضعف موقف بوتين أيضا. والسؤال الأكثر أهمية الآن هو ما إذا كانت بيلاروسيا ستَتَّبع المسار الديمقراطي نفسه الذي اختارته أوكرانيا في عام 2014، وإذا سقط لوكاشينكو، فقد يبدأ نظام بوتين أيضا بالظهور على نحو أقل قبولا للجدل. * فلاديسلاف إنوزيمتسيف * مؤسس ومدير مركز موسكو للدراسات ما بعد الصناعة. «بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»
مشاركة :