بكثير من الألم والحزن ننعي الراحل الكبير الأمير سعود الفيصل، فارس الدبلوماسية الأصيل الذي ترجل بعد سنوات مديدة من العطاء والنشاط والبذل بإخلاص لدينه ووطنه وأمته. ترك موقعه كوزير للخارجية منذ فترة وجيزة إلا أنه لم يغادر بعد قلوبنا واحداقنا ولم تتوقف صدى كلماته القوية الواضحة عن التردد في أسماعنا. فقد عرفت الراحل الكبير رحمة الله عليه بشكل شخصي ومباشر، حيث كان دبلوماسيا محنكا وسياسيا حصيفا، وكان مستمعا جيدا وقارئا نهما، مطلعا على كل شاردة وواردة في الحياة السياسية المحيطة به في أي مكان من العالم، ذهبت إليه ذات يوم وأنا أحمل له معلومة جديدة وطازجة عمرها سويعات ولم تنشر في الإعلام متوقعا أن شخصا بمركزه ومشاغله لم يسعفه الوقت بعد بالحصول عليها، فوجدته -رحمه الله- قد اطلع على تفاصيلها بل وتفاصيلها المملة، وزودني أنا ومعاونيه بمزيد من المعلومات والتفاصيل عنها، مضاف إليها تحليلا سياسيا وأمنيا دقيقا ومحكما. كان في كل اجتماع يحضره تجده محور الحدث ومداخلاته هي لُب الموضوع وخلاصتها وتقريرها الذي أضاع الآخرون الزمن والجهد في البحث عن مخرج لها. كان -رحمه الله- سريع البديهة وصاحب نكتة في ذات الوقت، يشعر محادثه دائما ببساطته وتواضعه في التعامل مع كاريزما الشخصية القيادية. فكل من عرفه أغرم بشخصيته المحببة وصفاته المتميزة، حتى من لم يكن متوافقا معه سياسيا، كان -رحمه الله- جسورا في الذود عن قضايا الأمة العربية والإسلامية، وكان بحق ابن أبيه بالشكل والقول والفعل، ومازالت تتردد أصداء كلماته القوية الواضحة في مسامعنا التي ألقاها في القمة العربية الأخيرة بشرم الشيخ. لقد تصدر -رحمه الله- المشهد السياسي العربي والإسلامي طوال الأربعين سنة التي قاد فيها الدبلوماسية السعودية في مختلف الأحداث الجسام التي مرت بها المنطقة العربية، ينافح عن قضايا الحق العربي والإسلامي وعلى رأسها القضية المركزية للأمة في فلسطين، لم يغب يوما عن متابعة الأحداث أو في العمل على توجيه بوصلتها نحو تحقيق مصالح وطنه وشعبه وأمته، كان بيته طائرته التي كلما حطت أقلعت به إلى موقع حدث وعمل آخر، لا يكل ولا يمل بهمة وحماسة يغبطها عليه الشباب قبل الشيوخ، فلم يثنه المرض وعديد العمليات الجراحية عن حيويته المنقطعة النظير عن العطاء والمثابرة في العمل إلى أن تدخلت مشيئة الله فترجل ليس عن العمل فقط بل عن الحياة الفانية برمتها لترتفع روحه الطاهرة بإذن الله إلى بارئها. أما عن دوره في تطوير علاقة المملكة ببلدي جمهورية جيبوتي فإنه لا ينسى له الفضل قط بأنه واحد من مفاتيح تطوير العلاقة بين البلدين منذ استقلال جيبوتي حتى يومنا هذا وكان داعما ومعبرا عن تضامنه وتأييده لمختلف قضايا بلدي والمصالح المشتركة بين البلدين الشقيقين التي كانت متطابقة ومتقاطعة دائماً وأبدا في كافة الظروف والمحافل، وذلك كإضافة تتويج إلى مابذله على المستوى الشخصي في المحافل الإقليمية والدولية في سبيل دعم استقلال جيبوتي الناجز في العام م. فليس لي في هذه اللحظة المهيبة التي نودع فيها قائدا إسلاميا فذا وفارسا عربيا أصيلا إلا أن أدعو المولى عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته ويلهم أهله وذويه والأمة جمعاء الصبر والسلوان. كما أتقدم إلى حضرة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- وإلى سمو ولي العهد، وسمو ولي ولي العهد، وأبناء وبنات وأخوة الفقيد وكافة أفراد الأسرة المالكة بالأصالة عن نفسي وباسم السفراء ورؤساء البعثات والسلك الدبلوماسي المعتمد لدى المملكة العربية السعودية الشقيقة بالعزاء الحار. منوها بأن فخامة السيد إسماعيل عمر جيله رئيس جمهورية جيبوتي قد عزى فور صدور بيان الديوان الملكي أخاه حضرة خادم الحرمين الشريفين بالاتصال هاتفيا، كما أصدر وزير الخارجية والتعاون الدولي بجمهورية جيبوتي بيانا نعى فيها سمو الفقيد -رحمه الله- وأسكنه الفردوس الأعلى. فالله أسال في هذه الساعة المباركة من هذا الشهر الفضيل أن يتقبل فقيد الأمة في عليين وأن يجزاه عن دينه وأمته ووطنه خير الجزاء، وأن يفغر له ويرحمه. * سفير جمهورية جيبوتي وعميد السلك الدبلوماسي بالرياض
مشاركة :