د. المعزّ الوهايبي ثمة ما يدفع إلى مقاربة «عين الحسناء» هذه الرواية التي تستأنف بطريقتها التقليد الرومنطيقي في الأدب السردي مقاربة إنشائية من شأنها أن تبين كيفية تشكل القول السردي فيها. فإذا كان السؤال الذي يُطرح عادة هو «لماذا نكتب؟»، فإنه قلما يُطرح السؤال «بماذا نكتب؟». هذا السؤال الأخير هو الذي يمكن اتخاذه مفتاحاً لقراءة «عين لحسناء». فحارب الظاهري واحد من الروائيين الذين يكتبون بالرسم. يتعلق الأمر، إذن بضرب من اللقاء بين الأدب والفن، وبتخصيص أكثر بين السرد والتشكيل، فهو يستعير من الرسم ما تقوم به الفرشاة من تسطير وتلوين. «الرجل الذي يمشي بين الألوان» أنسب ما يكون للشخصية المركزية الحاضرة بضمير الغائب في «عين الحسناء»، فمنذ طفولته وهو يلامس بلدته عبر ألوانها بفرشاته أو بآلة التّصوير؛ يعتزل منفرداً «بجبل الهملة، ليرى واحة النخيل من أعلى، فيرسمها ويصور معالمها كأنها كُتبت بحروف عربية ونُقِشت اخضراراً». فما يقدّمه السارد من وصف للرسام (الشخصية المركزية في الرواية) ينم عن انتباه هذا الأخير إلى الألوان والظلال والأضواء، وهي تخترق مسام الجلد لدى بعض الشخصيات، وقد «رسمتهم اللوحة بألوان الزمن»، ثم وهي تعتري الجدران والنخيل. فاللون هو ما يوقظ الذاكرة لدى الراوي. أسطورة بيجماليون لنا أن نلاحظ أن الوساطة اللونية لا تقتصر على حارة الرسام ومدينته فحسب؛ بل هي التي تصله بذاته وبالفن في مزج بين الحب والصورة. وذلك انطلاقاً من استئناف للتقليد الرومنطيقي المعقود على الصياغة السردية لأسطورة «بيجماليون وجالاتي». لكن إعادة بعث «عين الحسناء»، النسخة العربية ل«جالاتي»، إنما هو بعث يجري طبقاً لخصوصية ثقافية مغايرة مشدودة إلى مكان مغاير. وما يعزز هذا التناص السردي مع جالاتي التي بعثها بيجماليون حية من تمثال شكّله بيديه، هو أسلوب الكتابة الحُلمية في «عين الحسناء» التي يرسمها السارد كما يرسم الرسام، أو ينحت النحات، هي امرأة جميلة ثم يحبها. فهكذا يحدثنا الراوي عن شخصيته المحورية «بعد سن العشرينات، ها هو يرى جمال عين الحسناء نحتاً من الأسطورة». ولكونه يستخدم ذاكرة مستقبلية؛ أي ذاكرة تخييل أكثر منها ذاكرة استرجاع، فإنه يجعل من هذه الذاكرة مرسماً تَمْثُلُ فيه الموديل/عين الحسناء؛ فهي تجيء من الخيال حتى وإن أصبح جمالها حديث الحارة؛ إذ «يشعر بأن خياله أتى بها، لتحيي فصول حارة تشعره بالسراب». صحيح أن الرغبة في هذه الرواية حَيِيّة؛ لكنها هي مدار الزمنيّة التي تقيس خروج «الحميراء» من رحم الصحراء بأعرافها ونواميسها إلى المدينة الحديثة بمتطلباتها، فحتى وهو يمتطي الدراجة الهوائية، حيث العجلة ساعة أخرى لاحتساب الزمن الجديد في الواحات، أو يمتطي السيارة باتجاه العين أو أبوظبي حيث الزمن غير زمن الحارة، فإن «عين الحسناء» تتلألأ في مخيلته نجمة دالة إلى أن تكتسح كل المكان في آخر الرواية أرضاً، وقمراً متسللاً إلى حجرة الحب. يتم الأرض على مستوى سردية الحارة والمدينة، فإن المكان يتداخل مع الزمان على نحو يذكر بمعادلة ابن عربي «المكان زمان متخثّر والزمان مكان سائل». الطريف هو أنه يجعل «عين الحسناء» أمارة على فرادة المدينة وجغرافيّتها إلى درجة المماثلة بينهما، ويجعلها في الوقت نفسه، شاهدة على ولادتها من رحم الصحراء. فكأن حضور «عين الحسناء» تلطيف من حدة الشعور باليتم الذي قالت عنه جدته «إن الأرض تشعر باليتم حين يرحل أصحابها»، إلا أن الأمكنة ليست فقط أمكنة لحركة الناس، وإنما هي مساحات من الألوان تتحرك فيها فرشاته وأقلامه التي تستنطق الطرقات والممرات الضيقة.. حتى إنها تلاحق ملامسة الأرجل للطرقات والمسالك، وتصغي إلى وقعها على الأرض. ولذلك لا يكف عن التعاطي مع الصحراء باعتبارها قماشة يخط عليها الزمن ألوانه وأشكاله: «نظرا إلى لوحة الصحراء بالطريق». لا مراء في أن الصحراء طافحة بالألوان بحسب تعاقب المواقيت، لكن حارب الظاهري يعيد «رسمها بالكلمات»؛ فهو يكتبها بقلم/فرشاة؛ فإذا بالسرد كأنه خروج باللوحة التشكيلية من عالم الخرس إلى عالم النطق، وذلك في تجاوب مع قول دافنشي: «الرسم شعر يُرى بدل أن يُحسّ، والشعر رسم يُحسّ بدل أن يُرى». فإذا كان هذا المشاء في الخلاء يهتدي إلى دروبه بحسب ما تقذفه في مخيلته عين الحسناء من ضوء «عين الحسناء التي تحضر وتغيب، هذه الحارة أصبحت تطل من عينيها»، فإنه يمشي، في واقع الأمر، بين تدرجات من الألوان والأصباغ تتراوح بين الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق.. تلك هي عناوين الدروب والواحات من «الحميراء» عبر العين نحو أبوظبي أو دبي، هكذا يجعله الحب محباً للمكان كأنما في الأمر استلهام سردي لقول ابن عربي عن تأنيث المكان: «المكان الذي لا يُؤنّث لا خير فيه». وأمارات هذا التأنيث الجدة، الأمّ، الأخت، والحبيبة طبعاً. فمن فرط الحب يشف الشعور حتى تجاه الآخرين بشراً وحيوانات وأغراضاً بسيطة.. «تحط رأسها الجميل على وسادة حمراء ريشها المخملي ينفث في الهواء ألوانها السرمدية»، وفي الأحمر جناس مع اسم الحارة «الحميراء» حيث ظل اللون الأحمر يأسره. تماثل يمكن القول إن دلالة الأنثى/اللوحة، كما تتشكل في مختلف فصول الرواية تقريباً، تنحصر في مماثلة السرد للخطاب الذي نجده لدى نقاد الفنون التشكيلية. فهي رواية تتحول إلى نقد فني بأسلوب القص والحكي «وهكذا هي اللوحات الفنية لها أسرارها المتحصنة بداخلها، وقد تظل سنوات لا تُفهَم، وقد لا تبوح بأفكارها مهما امتدت الأيام، هي تحتفظ بملامح الزمن، وتظل رائحة الأماكن بعضها قابعة إلى ما بعد الهدم والتغيير».
مشاركة :