عاد الحديث عن الوحدة الوطنية الفلسطينية، وهي المعزوفة الأثيرة في الخطاب السياسي الفلسطيني السائد، ليحتل مركز اهتمامات الطبقة السياسية الفلسطينية اليوم، على خلفية مواجهة خطة ترامب “صفقة القرن” أو خطة نتنياهو “الضم”، لاسيما بعد المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده القياديان الفلسطينيان جبريل الرجوب عن “فتح” وصالح العاروري عن “حماس”، أوائل الشهر الحالي. وفي الواقع ثمة خلط، أو التباس، في شأن فهم معنى تلك الوحدة، أو في شأن تحديد ذلك المفهوم، وربما هو خلط متعمد، لأغراض المراوغة والتلاعب والتوظيف، ما يفترض التمييز بين مسألتين، أولاهما، وحدة الفصائل، أو وحدة الطبقة السياسية السائدة، في الكيانات الجمعية، أي المنظمة والسلطة، وبين وحدة الشعب الفلسطيني. فعلى هذا الصعيد لا يمكن القول إن ثمة انقساما بين الفلسطينيين في مختلف أماكن وجودهم، على الرغم من تباين الأوضاع والأولويات والحاجات، ما يستنتج منه أن انقسام الفصائل هو الذي يعكس نفسه سلبا على أوضاع الفلسطينيين، وليس انقسام الفلسطينيين هو الذي أدى إلى انقسام الفصائل، فالفارق كبير بين هذه وتلك، ما يؤكد ذلك، أيضا، أن معظم الفلسطينيين في الداخل والخارج، هم خارج الأجسام الفصائلية، ما يفيد بأنهم غير معنيين بالانقسام أصلا، وغير معنيين بتمكن هذا الفصيل على حساب ذلك، وضمن ذلك المنازعات على السلطة والمكانة والموارد بين الحركتين الكبريين، “فتح” و”حماس”، الأمر الذي يعكس نفسه بإحباط الفلسطينيين من ذلك الانقسام، ومن ضرره عليهم، وعلى صدقية قضيتهم. أما المسألة الثانية، فتتعلق بضرورة إدراك أن أكثر من سبعة عقود إلى إقامة إسرائيل، وتجزئة الشعب الفلسطيني، وخضوعه لأنظمة سياسية وقانونية متعددة ومختلفة، خلق واقعا من الاختلاف في إدراك الفلسطينيين لذواتهم، ورؤيتهم لذواتهم كشعب، بحكم اختلاف الأحوال والمعطيات والحاجات والأولويات. هذا لا يعني أن رؤيتهم لذواتهم كشعب قد اضمحلت، على العكس من ذلك، فهذا الأمر ما زال في لبّ الوعي الشعبي الفلسطيني الفطري. ولكن المشكلة هنا تتمثل في أن ترجمات هذا الوعي باتت قاصرة أو عاجزة في ميدان الممارسة، يفاقم من ذلك تهميش منظمة التحرير الفلسطينية، وحصر مركز الثقل في السياسة الفلسطينية في الضفة وغزة، وفي هدف إنهاء الاحتلال في الأراضي المحتلة عام 1967، وفي اختزال حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في مجرد إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع، وإزاحة السردية الوطنية الفلسطينية من حدث النكبة (1948) إلى حدث احتلال الضفة وغزة (1967). وفي الواقع فإن الطبقة السياسية المهيمنة هي المسؤولة، هنا أيضا، عن هذا التفكك في الوعي والممارسة السياسيين عند الفلسطينيين، وهي المسؤولة عن الانقسام الحاصل. ومثلا، فعندما كانت المنظمة (قبل إقامة السلطة) هي مركز السياسة الفلسطينية، فإنها ظلت بمثابة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وضمن ذلك لفلسطينيي 48، رغم أنهم غير متمثلين فيها، أي أنهم رغم ذلك كانوا يعتبرونها ممثلهم القومي، في حين أن المنظمة باتت الآن، على هشاشتها، تستبعد، أيضا اللاجئين الفلسطينيين من معادلاتها، بعد انتقال مركز ثقل العمل الوطني الفلسطيني إلى الداخل ولصالح كيان السلطة. هكذا، ونتيجة لكل ما تقدم، فإن الفلسطينيين في أماكن وجودهم كافة، يكادون يشعرون وكأنهم لم يعودوا شعبا واحدا، إلا في الشعر والشعارات والبيانات السياسية، إذ باتوا يفتقدون لإجماعاتهم السياسية والكيانية، بعد أن خسروا المنظمة ولم يربحوا السلطة، التي أضحت رهينة السياسة الإسرائيلية، وبنتيجة الانقسام والتنازع بين «فتح» و«حماس»، وبين سلطتي الضفّة وغزّة. وفي الحقيقة فإن الفلسطينيين لم يسبق أن واجهوا مثل تلك الحالة من التفكك بين مجتمعاتهم في كافة أماكن وجودهم، في الداخل والخارج، وحتى بين الضفة وغزة، إضافة إلى تآكل مجتمعات الفلسطينيين في العراق وسوريا ولبنان، بحكم الحروب الأهلية والتشرد والظروف الصعبة، وأيضا بسبب الخلافات الفلسطينية، وانقسام النظام السياسي، وتهميش منظمة التحرير لصالح السلطة، وتراجع أهداف الإجماع الوطني. المشكلة أن القيادات الفلسطينية، وهذا يشمل قيادتي “فتح” و”حماس”، في غضون تركيزها على تعزيز مكانتها في القيادة والسلطة، لم تول الأهمية المناسبة لتدارك تبعات هذا المسار الخطير، كأنها لا تدرك أن تفكك مفهوم الشعب الفلسطيني، يؤدي حكما إلى تفكك وحدة القضية الفلسطينية، أو إنها إذا كانت تدركه فإنها تغلب مصلحتها كسلطة، على مصلحة شعبها وحقوقه الوطنية. باختصار لا يمكن استعادة الوحدة الوطنية بمجرد مؤتمر صحافي، لاسيما أنه سبقته مؤتمرات واتفاقيات كثيرة، ولا بادعاء التوحد إزاء خطر خارجي، لأن ذلك يعني إخضاع الوحدة الوطنية لمصالح فصائلية، أو لظروف مؤقتة. والفكرة أن الوحدة الوطنية بحاجة أولا، إلى استعادة الرؤية الوطنية الجمعية، التي تتأسس على المطابقة بين الأرض والشعب والقضية. وثانيا، فهي بحاجة إلى توفر الإرادة والقناعة بضرورة التغيير السياسي من خلال إعادة بناء منظمة التحرير، كي تصبح حقا ممثلة لكل الشعب الفلسطيني ومعبرة عن قضيته التي تأسست بإقامة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني. وثالثا، يفترض كل ذلك الانطلاق من وحدانية شعب فلسطين، ووحدة روايته وقضيته ومصيره. ولعل الافتقاد إلى تلك الأسس هو الذي يفسّر أن ذلك الاحتفاء بالمؤتمر الصحافي للرجوب والعاروري، الذي أوحى بسلوك الطرفين درب الوحدة، كرد على خطة الضم الإسرائيلية، سرعان ما تلاشى، كأنه مجرد سراب.
مشاركة :