رقية نبيل لم يكن أحد الحاضرين يعلم شيئًا عن هذا الشاب الجديد الذي أتى به إسحاق الموصلي إلى جنابة الخليفة هارون الرشيد! لمعت الآنية المذهبة في كل مكان، وحلقت الأطيار الملونة حول البركة التي تترقرق مياهها تحت الشمس، وجلس الخليفة على الرياش الفاخرة يرمق الشاب الأسمر جميل القسمات.. وينتظر، كما انتظرت الحاشية كلها أن يفتح الشاب فاه وينشد، تنحنح الشاب في تردد ثم شرع يغني: يا أيها الملك الميمون طائره هارون راح إليك الناس وابتكروا. لم تكن الكلمات، لم يكن المديح الذي أتقنه الشعراء على اختلاف محابر أقلامهم، لم تكن المقطوعات الصوتية "لا"، لكنه الصوت، وما أشجاه من صوت! ذهل القوم وطربت مسامعهم وهبّ الرشيد واقفًا، لا تسعه فرحة، ولا يملك نفسه، لقد كان هذا أعذب صوت ذاقته يومًا أذناه.. أوصى الخليفة المعلم بالتلميذ، وكان التلميذ هو علي بن نافع الموصلي، المكنى بأبي الحسن، الملقب بالطائر الشحرور عذب الصوت أسود اللون "زرياب"، الرجل الذي عني بالغناء بأساسياته وبأصوله وكان كل ما فيه رقيقًا عذبًا ليس صوته فحسب. الشحرور الأسمر الذي نقل رقيّ الشرق وآدابه وفخامته إلى الأندلس الوليد، حيث تشربته إسبانيا وارتوى به الغرب أجمع وطاروا خبالًا بزرياب الأندلس. لم يعمل إسحق الموصلي بتوجيه الخليفة بل شاب قلبه الحسد والحقد على موهبة تلميذه الشاب، فهدده بالاغتيال وإلا فالرحيل للأبد عن بغداد، عاصمة الخلافة الإسلامية ودرة المشرق والمغرب، فغادرها إلى الأندلس الخضراء مطيعًا، لتكون فاتحة لمواهبه العديدة، وليُكتب له أن يلعب دور النهر ما بين المشرق والمغرب. حل زرياب ضيفًا على خليفة الأندلس الذي شغف بصوته ورقة طباعه فلم يزل يقربه منه ويجزل له العطايا حتى صار من أقرب ندمائه، وأشرقت على فتانا زهرة الدنيا وعطر الأيام، وتفتحت في ظلّ هذا الاهتمام خبابا المواهب التي تحويها نفسه، فقد كان يبذر الرقي حيثما وجد، ونقل الأقمشة والعطور من بغداد إلى قصور النبلاء في الأندلس وابتكر آداب الطعام المسماة اليوم بـ"الإتيكيت"، وسحر أهل المدينة الفتية بعذوبة صوته وجمال آدائه وكان أديبًا واسع الثقافة، شغوفًا بالبلدان ومواضعها وخارطاتها، متقنًا لبحور الشعر جميعها، وكان رجلًا بالغ التهذيب، أنيقًا حتى في إيماءات وجهه، رشيقًا حتى في تلويحات أصابعه. وكان للعود معه حكاية أخرى، حيث عشق هذه الآلة الوترية واستنطق منها أشجى النغم وأعذبه، وزاد فيها وترًا خامسًا وقد كانت دائمًا رباعية الوتر، فأكسبها رقة ولطفًا ما عهده أحدٌ من قبل، بل وأبدل مضراب العود بقوادم النسر بعد أن كانت من الخشب، ونسق الألحان كما لم تكن قط من قبل، حتى شاع أن الجنّ هي من تصبّ في أذنه تلك الألحان. ولما كثر تلاميذه وشغف بنقل أصول الغناء إلى الأفواه الصغيرة، أنشأ أول دار لتعليم الموسيقى في الأندلس "المدنيات"، وابتكر منهاجًا لتعليم تلاميذه، كلٌّ بموهبته وبمقدار صوته، وانطلق يعلم العزف والغناء والتلحين والشعر والرقص حتى صارت مدرسته دورًا يهلّ عليها المشرق والمغرب، وتنوقلت طرائقه إلى يومنا هذا. لم يزل التمثال الذي نصبوه يحكي قصص "الطائر الأسمر" زرياب في شوارع إسبانيا حتى اليوم. نصب الطائر الأسمر "زرياب" في شوارع إسبانيا
مشاركة :