تعطي حالة التخبط التي تعاني منها الشركات الصغيرة والمتوسطة في ليبيا لمحة عن مدى تغلغل الفساد في الدوائر والمؤسسات الخاضعة لسيطرة حكومة الوفاق، فضلا عن العقبات التنظيمية والمالية التي لا يوجد لها أثر في ظل غياب قانون ينظم القطاع الخاص. طرابلس - انعكس عبث حكومة الوفاق التي يرأسها فايز السراج في العاصمة الليبية طرابلس وبعض المدن القريبة منها بأموال الليبيين بشكل واضح على المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي راحت ضحية لتغلغل الفساد ونقص التمويلات. ولكن هذه المشكلة لا تُختزل في تلك العوامل، بل إن الاضطرابات الأمنية تعتبر سببا إضافيا حتى يدفع أصحاب الأعمال في طرابلس ثمنا باهظا للتوتر القائم بين ميليشيات السراج والجيش الوطني الليبي. ويدرك الليبيون أن إعادة الإعمار صلب الدمار الكبير أمر صعب. ويتمعن محمود الشركسي بركام مصنعه، الذي دمر قبل عام في معارك على مشارف طرابلس، ويأمل رغم الدمار، في انطلاقة جديدة ممكنة بعد هذه الحرب، تماما كما في أعقاب كل الحروب التي عرفتها بلاده. ويقول الشركسي لوكالة الصحافة الفرنسية، وهو يتفحص المباني المدمرة التي كانت مخزنا لبضائع مصنعه للمطابخ في عين زارة إحدى ضواحي طرابلس “هذا الموقع هنا كان قلب مشروعي. هنا بدأ كل شيء”. وتعرضت المصانع والمتاجر الصغيرة في المناطق الصناعية المحيطة بالعاصمة لأضرار هائلة بعد 14 شهرا من المعارك بين حكومة الوفاق المدعومة من أنقرة والجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر الذي يسيطر على شرق البلاد وجزء من جنوبها. وواجه العديد من أصحاب الأعمال، على غرار الشركسي، ضربات مماثلة كلما اندلعت مواجهات فاقمت متاعب البلد. ولم يعط الزعيم الراحل معمر القذافي طيلة ثلاثة عقود من الزمن اهتماما بالقطاع الخاص، إذ تم استبدال كل المدارس والمصانع والشركات والمكتبات والمتاجر والفنادق الخاصة بمؤسسات حكومية. وفشلت حكومة السراج في الحفاظ حتى على مقدرات القطاع العام إذ تغلغل الفساد إلى كافة المؤسسات وأعاق نشاطها، فضلا على إغراقها في الديون والتفويت في العديد من القطاعات لتركيا التي تعد الداعم الأبرز لها. ونتيجة لذلك، وفق البنك المركزي الليبي، تضم ليبيا اليوم مليوني موظف حكومي من أصل 6.6 مليون نسمة، تشكل رواتبهم نسبة 59 في المئة من ميزانية الدولة. وترغب فئة أصحاب الأعمال حاليا، الشابة والدينامية، بالخروج من هذه الحلقة المفرغة والانطلاق بشكل مستقل. ويشير الشركسي إلى أنه لا يوجد نقص في الفرص ويمكن للشركات الصغيرة والمتوسطة أن تشكل محركا للنمو في البلاد. واستطرد “لكن لتحقيق ذلك، يجب على الحكومة التي تعتمد حصريا على عائدات النفط أن تقرر التخلي عن الاقتصاد الريعي لصالح الخصخصة”. ونسبت وكالة الصحافة الفرنسية لنسرين قدح من وكالة إكسبرتيز فرانس للتعاون التقني والدولي قولها إنّ “عقبات عديدة أضعفت غالبية الشركات المتوسطة والصغيرة الليبية لأن المصارف ترفض منح تمويلات للشركات المتوسطة والصغيرة والشركات الناشئة”. ويجمع خبراء على أن فساد حكومة السراج دق المسمار الأخير في نعش القطاع الخاص وقضى على أحلام الآلاف من الشباب من رواد الأعمال كما منح الحقوق الحصرية لاستغلال الشركات المحلية للأتراك مقابل الدعم العسكري. وترفض حكومة طرابلس منح الشباب دعما ماليا لمساعدتهم على النهوض بأعمالهم، ويرى خبراء أن الحكومة تتعمد إهمال القطاع الخاص لشرعنة الاحتلال الاقتصادي التركي لليبيا. وتضيف قدح “عقلية الشباب تغيرت.. أدرك كثير منهم أن المستقبل هو للقطاع الخاص وليس للقطاع العام”. وتصطدم طموحات الشباب بإهمال حكومة طرابلس للقطاع الخاص وسوء إدارتها لكافة القطاعات الإنتاجية ما قادها إلى خسائر كبيرة وأحال الآلاف من الشباب إلى البطالة الاضطرارية. وترى الخبيرة أن الطريق لا يزال طويلا ضمن نظام مساراته معقدة، فتسجيل شركة خاصة يتطلب عملية طويلة ومؤلمة ومكلفة. ويوافق مروان البويشي على هذا الرأي، لكن هذا الحداد البالغ 47 عاما يرى أن مكافحة الفساد والاستقرار الاقتصادي هما الأولوية، من أجل طمأنة المستثمرين. ويقول ساخرا “بات الفساد مبتذلا بشكل يثير القلق. ما لم تكن فاسدا لا تعدّ ذكيا بما فيه الكفاية لعالم الأعمال”، وذلك فيما يحصي أضرار مشغله المدمر جزئيا. وأعرب هو أيضا عن استعداده لإطلاق عجلة عمله من جديد. ولم يتحمل وليد فتحي الضربة، فأغلق متجره وسرح عماله وغادر ليبيا عام 2015، بسبب النزاع الذي دار لعدة أشهر بين ميليشيات حكومة طرابلس المتناحرة في طرابلس ومحيطها، ولكن عمل شركته الإعلانية التي تأسست عام 2006 يسير بشكل جيد. ويروي فتحي “أردنا أن نخلق شيئا في البلاد ومن أجلها”، لكن شركته الصغيرة التي تضم العشرات من الموظفين لم تتحمل الضربة، بسبب انعدام الأمن المتزايد. ويتابع “نهبت مستودعاتنا وسرقت طابعاتنا المستوردة من ألمانيا كما الورق والحبر، وهي بضائع تقدر قيمتها بنحو 170 ألف دولار”. وعاد وليد لزيارة ليبيا لبضعة أيام، لكنه علق بسبب الإغلاق الناجم عن تفشي فايروس كورونا المستجد. وحتى لا يجلس عاطلا عن العمل، وجد نفسه من جديد وكما في بداياته يوزع بطاقاته على تجار وسط المدينة، من أجل استطلاع الفرص لأن الحياة، بالنسبة له أيضا، ليست سوى بدايات جديدة على الدوام.
مشاركة :