انبهار كامل ودهشة كبيرة بروعة العمل؛ هما ما تلبساني وابنيّ، ونحن نتجول في قاعة "البانوراما" التي أنشأتها بلدية إسطنبول قبل 3 أعوام، تخليدا لفتح "القسطنيطينة" وقائدها العثماني الخالد محمد الفاتح. مرت علينا في مقرراتنا الدراسية تلك المعركة العظيمة التي تنبأ لها سيد البشر محمد، صلى الله عليه وسلم، وبشّر بها وأثنى على ذلك الجيش وقائده، بقوله: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش"، وأتذكر أستاذ التاريخ المبدع الذي سرد علينا تلك القصة، وأخذ بألبابنا ونحن فتية صغار، نجوب بأخيلتنا الصغيرة في تلك البقاع التي رسمناها من وحي تلك المرحلة العمرية التي كنا فيها. ما أروع أن تسقط ما قرأت من تاريخ وأحداث على أرض الواقع، بل من أمتع اللحظات تلك التي تقف فيها أمام شواهد وأماكن كنت قرأت عنها في الكتب؛ لتستحضر تلك السطور وأنت في مواقع الأحداث، فتنساب كل المعلومات في تداع حرّ، تملك بمجامع نفسك، وتنتابك حالة نفسية لا تشعر بمن حولك، انسجاما بما ترى، وقد أخذت الوقائع تتوالى من ذاكرتك، وهو ما حصل لي وأنا أرى ذلك العرض البانورامي المدهش لفتح "القسطنطينية"، إذ بث على هيئة "سينيماتوغرافي" ثقافي متفرد. آمنت حقا بأن استخدام السينما والوسائل البصرية أجدى كثيرا في التعليم، وها أنا أتوجه إلى وزير التعليم عزام الدخيل بأن يهتم بهذا الجانب، وأن يقدم مقاطع سينمائية مصورة لتأريخنا الذي نقوم بتدريسه، فهي تغني مليون مرة عن الكتب الجافة، وأن يشجع القطاع الخاص على الاستثمار في إنتاج هذه الأفلام، فهي تبقى في الذاكرة، وتكون مادة مشوقة. وأيضا انتابتني حالة من الغيرة، فلدينا في تاريخنا الإسلامي والوطني ما يستحق أن نؤرخه بتلك الصورة البديعة، التي يمكن أن نفاخر بها أمام الزوار، والتكلفة التي بنت بها بلدية إسطنبول متحف "بانوراما 1453 " بلغت 15 مليون دولار، تستطيع تعويضها من خلال زوارها الذين يغشونها بمئات الآلاف سنويا، سيما وأن العرض مبهر فعلا بتقنيات 3D السمعية، ومؤثرات الضوء المتنوعة التي تجعلك تعيش المعركة كأنها أمامك، بل ونماذج المدافع والسيوف والقذائف التي استخدمت في تلك المعركة أمامك مباشرة. دمعت عيناي، وأنا أشاهد القائد الشاب محمد الفاتح على فرسه البيضاء في وسط المعركة، وبجواره مباشرة الشيخ "آق شمس الدين" الذي قام بتعليمه، وهو من أقنع الأمير الصغير بأنه المقصود بالحديث النبوي، وهو الشيخ الذي ألقى أول خطبة للجمعة في "مسجد آيا صوفيا" ويذكر المؤرخون محبة محمد الفاتح الكبيرة لشيخه شمس الدين حبا عظيما، ويسوقون حديثه لمن حوله -بعد الفتح-: "إنكم ترونني فرحا، فرحي ليس فقط لفتح هذه القلعة. إن فرحي يتمثل في وجود شيخ عزيز الجانب، في عهدي، هو مؤدبي الشيخ آق شمس الدين". بقية القصة مشهورة في تعامل محمد الفاتح مع أهل المدينة، وبما فعل جلّ قادة تاريخنا الإسلامي المجيد، إذ لم تأت ظهيرة ذلك اليوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى 875هـ/ 29 من مايو 1453، إلا والسلطان محمد الفاتح في وسط المدينة يحف به جنده وقواده وهم يرددون: "ما شاء الله!"، فالتفت إليهم وقال: "لقد أصبحتم فاتحي القسطنطينية، الذين أخبر عنهم رسول الله"، وهنأهم بالنصر، ونهاهم عن القتل، وأمرهم بالرفق بالناس، والإحسان إليهم. ثم ترجل عن فرسه، وسجد لله على الأرض شكرا وحمدا وتواضعا، ثم قام وتوجه إلى كنيسة "آيا صوفيا"، وقد اجتمع بها خلقٌ كبير من الناس ومعهم القسس والرهبان، الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، فلما اقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها ووجلوا وجلا عظيما، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له، فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان، فاطمأن الناس، وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة، فلما رأوا تسامح محمد الفاتح وعفوه، خرجوا وأعلنوا إسلامهم. تصوروا كيف أن هذه المعاني والأحداث عندنا تعرض عبر تقنيات العصر المبهرة، فأي تأثير تفعل بالنفوس. إن كانت أداة التاريخ في الماضي هي الكتابة، فاللغة اليوم اختلفت، وعلينا الكتابة بها.
مشاركة :