هل تنهي الأزمة الليبية التردد المصري حيال روسيا | محمد أبوالفضل | صحيفة العرب

  • 7/16/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

فتح طلب البرلمان الليبي من مصر التدخل العسكري لمواجهة الأطماع التركية في البلد، الباب لإحداث تقارب بين القاهرة وموسكو اللتين تراهنان على الحل العسكري لتقويض فوضى المرتزقة والميليشيات بعد انسداد المفاوضات والحلول السياسية، وما يحفز على تطوير العلاقات بين البلدين الحسم الروسي في ملف الإرهاب، فيما خففت القاهرة رهاناتها على الغرب في ظل تردد وصمت أميركيين أمام التجاوزات التركية المستمرة في ليبيا. أعادت تطورات الأزمة الليبية المزيد من الدفء في شرايين العلاقات بين مصر وروسيا، حيث بدت موسكو قريبة من القاهرة في الكثير من الحسابات السياسية والعسكرية للأوضاع المتدهورة في ليبيا، ما يحمل العديد من التداعيات الإقليمية والدولية، إذا استقر الرئيس عبدالفتاح السيسي تماما على أن يكون نظيره فلاديمير بوتين هو الحليف الاستراتيجي الرئيسي له في المنطقة. وينعكس هذا التطور سلبا على علاقة السيسي الوطيدة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي أثارت حنق المرشح الديمقراطي في انتخابات الرئاسة الأميركية جو بايدن مؤخرا، ما يعني أن نجاحه قد يصبح خريفا للقاهرة. كما أن مواقف ترامب القريبة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الأزمة الليبية تدعم اقتراب القاهرة من موسكو التي تتخذ موقفا صلبا من التنظيمات المتطرفة ولديها رؤية واضحا في مجال مكافحة الإرهاب، بينما تقوم واشنطن بتوظيف الوجود التركي في ليبيا على أكثر من اتجاه. ظلت مصر تحتفظ بعلاقة متوازنة خلال السنوات الماضية بين الولايات المتحدة وروسيا، وحاولت ضبط بوصلتها مع القوتين، ولم يمنعها ذلك أيضا من الانفتاح على قوى أخرى، مثل الصين وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، وانتهجت سياسة توافقية في المحاور المختلفة، واستفادت من تنويع علاقاتها في عقد صفقات عسكرية متنوعة، مكنتها من امتلاك معدات دفاعية وهجومية متطورة. إحجام وإقدام فتحت السخونة التي تشهدها الأزمة الليبية حاليا، الحديث مرة أخرى عن الاصطفافات الإقليمية التي تراجعت الفترة الماضية، أو بدت متقلبة في نظر كثيرين، بحكم التحولات السريعة التي تمر بها بعض الأزمات، وعدم استقرارها على حال، أو بسبب الغموض الذي يكتنف الرؤى والحلول النهائية، ناهيك عن تذبذب مواقف واشنطن، وارتباكها في مسألتي الإحجام والإقدام في التفاعل، وانخراط ترامب في مشكلاته الداخلية. أبدى الرئيس بوتين اهتماما مبكرا بالمنطقة، ونجح في تكريس إحدى قدميه في سوريا، وحاول مد الأخرى إلى ليبيا، ولم يجد أمامه سوى أردوغان الذي يستطيع تقاسم الأدوار معه في ليبيا من خلال دعمه المكثف لحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، وانحياز بوتين للجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، بحيث يتقاسمان الغنيمة إذا جرت تسوية الأزمة على مقاس كلاهما. بدأت المعادلة تختل في ظل ألاعيب أردوغان، وما سببه من إزعاج لدول غربية عديدة، انتبهت إلى اللعبة وأخذت تنتقد دور موسكو الخفي في ليبيا، وهو ما تزامن مع حيرة مصر في التدخل أو التلكؤ، الطريق الأول يحتاج إلى مساندة دولية في مجلس الأمن غير مضمون أن تقدمها إحدى الدول الغربية، والطريق الثاني يحمل مخاطر جسيمة حال التخلي عن مواجهة محتومة، ويغري تركيا بتوسيع نطاق تقدمها في الشرق الليبي، ما دفع إلى الاقتراب كثيرا من روسيا التي تستطيع توفير الركيزتين. تجد موسكو في الأزمة الليبية أبوابا جيدة للاقتراب من جنوب المتوسط، وبدأت تناور بورقة أردوغان على أكثر من جبهة، وعينها مصوبة على مصر التي تعد ليبيا بالنسبة لها فضاء حيويا مؤثرا على أمنها القومي، وأي تغول لتركيا معناه الخصم من رصيد مصر وتهديدها إقليميا، ووجدت أن هناك إمكانية للتفاهم عندما تيقنت أن واشنطن غير جادة في التعاون معها، بل بدت الكثير من تصوراتها تميل ناحية خصومها. كما أن الدول الغربية النشطة في الأزمة لم تقم بالخطوات التي تؤكد أنها مستعدة لصد التدخلات التركية، وإذا واصلت القاهرة رهاناتها على تعديل هذه المواقف لصالحها قد تصل أنقرة إلى أهدافها من أقرب زاوية ممكنة، أي نشر المزيد من المرتزقة والإرهابيين الذين لم يزعجوا بما يكفي دول الاتحاد الأوروبي لتتبنى تحركات مناسبة تقوض من دورهم، وتضع حدا لتمركزهم في ليبيا وتقوية جبهة التيار الإسلامي. عند هذه النقاط التقت مصالح مصر وروسيا في ليبيا، وتعني أن البلدين قطعا شوطا في التفاهمات الضمنية بشأن آليات التعامل مع الأزمة، وحققت مناورات بوتين بتسخير ورقة أردوغان هدفها، فعلى الصعيد الأوروبي أصبح الرئيس التركي شوكة في خاصرة الكثير من دول الاتحاد، وعلى المستوى الإقليمي دفعت القاهرة إلى حسم موقفها، لأن الأوراق التي تملكها موسكو يمكن أن ترجح الكفة، إذا دخل الحسم العسكري حيز التنفيذ في أي لحظة. بنت مصر حساباتها السياسية مع ليبيا على فتح خطوط متوازية مع كل من الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، وأبقت روسيا على الهامش فترة طويلة كي لا تثير أزمة مع هذه الدول النافذة تقليديا في ليبيا، ونجحت موسكو في تطوير التعاون مع المشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي، والمستشار عقيلة صالح رئيس البرلمان، في حين لم يسفر التعاون بين القاهرة وقوى غربية عديدة عن نتيجة ملموسة في حذف التهديد التركي من المعادلة الليبية، وربما العكس. كان الحديث المصري المباشر عن التدخل العسكري الإشارة التي فكت الكثير من الألغاز بين القاهرة وموسكو، وأنهت الحذر الذي خيم لفترة طويلة بشأن اللجوء إليه، فمصر لا تريد أن تتحمل وحدها عبء المواجهة مع تركيا والمرتزقة الذين ترعاهم في ليبيا، ولا توجد دولة غربية تستطيع الإعلان أو الجهر بمساندتها، ولم يعد أمامها سوى العودة إلى مربع روسيا التي تظل ورقة مختزلة في الكثير من الأزمات الإقليمية. تكمن المشكلة في أن موسكو ليست رديفا مجانيا لمصر، أو أي دولة، فكل مساعدة تقدمها تأخذ أضعافها ماديا ومعنويا كمقابل لها، هكذا فعلت مع كل من إيران وتركيا وسوريا وغيرها، وهي تؤمن بأن الانحيازات لا تعني بالضرورة الصدام، فيمكن للقاهرة تفعيل تحالفاتها مع موسكو دون المساس بثوابت العلاقة مع واشنطن. أسهمت الأزمات المتفاقمة في وضع قاعدتين مهمتين، الأولى انتهاء عصر الممانعات (الفيتو) في العلاقات الدولية، أي أن العلاقة بدولة خصم لا تؤدي إلى توتيرها مع دولة صديقة، والثانية التوافق في أزمة لا يلغي إمكانية الخلاف في أزمة أخرى. على هاتين القاعدتين جرت الكثير من المياه السياسية بين روسيا والدول التي تبدو قريبة منها، فلماذا لا تسلك القاهرة هذا المنحى، وتجد حلا مواتيا ومتوازنا للتعامل مع الأزمة الليبية التي أكدت لها حجم النفاق الأوروبي؟ تشير بعض المعطيات التي حصلت عليها “العرب” إلى أن القاهرة الآن أقرب إلى موسكو أكثر من أي وقت مضى، والتنسيق بينهما وصل مرحلة متقدمة، ومن يراقب الخطاب الروسي الرسمي والشعبي يجده داعما للخطاب المصري على المستويين السياسي والعسكري، وتم حل شفرة التناقضات التي كانت تعتمل من وقت إلى آخر، مع التطور اللافت في أكثر من مجال، غير أن العلاقة لم تكن على المستوى الذي تتمناه موسكو من القاهرة، أو العكس، ولا بد من حل يجد فيه كل طرف ما يريده من الآخر بأقل تكلفة ممكنة، فالخارطة الإقليمية لا تزال حافلة بالمفاجآت. لم تتقدم التفاهمات بين البلدين كثيرا حول مصادر الطاقة في منطقة حوض شرق البحر المتوسط، والتنسيق بينهما غير موجود أو في حده الأدنى، فبدلا من تركيز القاهرة على الجانب الأوروبي لمناكفة تركيا عليها التقارب مع موسكو أحد أهم منتجي الغاز في العالم، ما يؤدي إلى تقديم حلول خلاقة لها في المستقبل تشمل ليبيا وغيرها. كذلك التسهيلات البحرية المطلوبة في البحرين الأحمر والمتوسط لم تستجب لها مصر حتى الآن، وحتى مفاعل الضبعة النووي الذي تعهدت موسكو ببنائه في منطقة العلمين، شمال غرب مصر، والقريبة من الحدود مع ليبيا، يشهد تذبذبا من وقت إلى آخر. وكلها ملفات يسهم حلها في تطور العلاقات حتى تستقر عند حيزها الاستراتيجي. إذا مضت الأمور في الطريق الإيجابي، تضمن مصر حلا، سياسيا أو عسكريا، غير مكلف لها في ليبيا، الأمر الذي يؤدي إلى دخول موسكو من بوابة مصر الواسعة والمفتوحة على بوابات عدة في المنطقة، خاصة أن دول أوروبا عاجزة عن التعامل مع الأزمة، والولايات المتحدة تكاد تصبح بطة عرجاء مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، والتطورات المتلاحقة التي تقوم بها تركيا يمكن أن تغير موازين القوى. يتقمص الرئيس السيسي أحيانا دور الرئيسين المصريين السابقين، جمال عبدالناصر في تقوية أركان الدولة والطموح الإقليمي، وأنور السادات في تمسكه بالتسويات السياسية للأزمات، وهي الميزة التي وفرت له مساحة جيدة للمناورة والانفتاح. ولذلك سوف يحتفظ بعلاقة قوية مع روسيا دون أن يكون مضطرا إلى التضحية بقوى أخرى، وتخطي أزمة ليبيا هو أول ملامح هذه الاستراتيجية.

مشاركة :