تحاول الكثير من الدول التخلي عن انحيازاتها السياسية والعسكرية تجاه أي من القوى الفاعلة في الصراعات الإقليمية، ويحرص البعض على الابتعاد عن التفاخر بذلك، ولو كانت مواقفه وتصرفاته تؤكد الميل لطرف على حساب أطراف أخرى. تسعى قوى خارجية عدة في غالبية التوترات والأزمات الحالية إلى النأي بنفسها عن الانحياز، وإذا ضبطت متلبسة تسوق الحجج والذرائع لعدم تحويل التهمة إلى واقع، وتتبنى تصورات وتقدم على تصرفات تنفي ذلك. فرضت معطيات كثيرة اللجوء إلى هذه الطريقة للهروب من تبعاتها، فمعظم المشكلات الراهنة متحركة ومتغيرة، ومفتوحة على احتمالات متعددة، تتشابك فيها خيوط مختلفة، وتفتقد للقوة المهيمنة التي تستطيع كسب الجولة لصالحها، أو يمكن التعويل عليها لاحقا في الحسم، لأن السيولة والهشاشة وكثافة اللاعبين والمؤثرين تحول دون وجود طرف يملك بمفرده مفاتيح الحل والعقد. يحتاج من يريد الحل إلى تكاتف قوى عديدة والتفاهم حول آلياتها السياسية، بينما تستطيع جبهة محدودة نسف جهود جبهات متلاحمة، ومن سمات النزاعات المنتشرة في المنطقة التي هي بحاجة إلى تسويات توفر حلول رضائية مع قوى متنافرة. تقف الأزمة الليبية شاهدة على هذه المحددات، حيث تحاول قوى مهتمة بها ومنخرطة فيها عدم التشبث بمواقف قاطعة وحدية، واضطرت دول في مواقف عدة إلى تغيير وجهتها، فبعد تأييد طرف لجأت إلى تخفيف الانحياز إليه والتعامل مع الطرف المقابل بطريقة مماثلة، وبدت صعوبة النصر واحدة من الملامح التي لعبت دورا في هذه المراوحة، التي أخذت تطغى على حسابات قوى إقليمية ودولية، وأخرى محلية. وقفت إيطاليا إلى جانب رئيس حكومة الوفاق فايز السراج، ودعمت التيار الإسلامي بكل ما تملك من أدوات متنوعة، إلى الدرجة التي فرضت عليها تحاشي اتخاذ موقف صارم من الجماعات الإرهابية والمتطرفة والميليشيات عموما، ثم عملت على تخفيف دعمها في العلن لها، خوفا من نجاح الفريق المضاد، أو أي فريق آخر يصعد في المشهد، ما جعلها تتظاهر بأنها على مسافة واحدة من القوى المتصارعة. على الجهة المعاكسة، فعلت باريس شيئا شبيها لما قامت به روما، وخففت من اندفاعها نحو فريق المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي، ولم تمانع في مد خطوط تواصل مع جبهات مناوئة، في مقدمتها فريق السراج. ولأن كل معسكر يتكون من موزاييك سياسي وعسكري، كانت عملية التنقل محسوبة، ولا تفرط تماما في الخيوط التي تبقي أصحابها فاعلين، بصرف النظر عما تحمله من تناقضات، فقد فرض الدفاع عن المصالح ليونة في لغة الخطاب السياسي، ومرونة في الدعم العسكري، بمعنى أن عددا كبيرا من القوى لم يقصّر في توزيع دعم مادي وسياسي على عناصر الفريقين الرئيسيين خوفا من انتصار أحدهما. لجأت دول غربية، تقف في الظاهر ضد الإرهاب والقوى المتطرفة، إلى التواصل مع القيادات المباشرة أو عبر وكلاء محليين لهم، خوفا من التفوق في معارك لم تظهر ملامح نهائية لها، لكن توحي المقدمات بعدم استبعاد حضورهم. دفعت الانتصارات التي حققتها قوى إرهابية في الغرب الليبي، بمساعدة تركيا، البعض إلى التريث في تبني مواقف صدامية مع المتشددين والمرتزقة، فقد بدأ دورهم يتنامى بصورة لافتة، وقد تتعزز مكانتهم داخل الطبقة السياسية في طرابلس. طريق اللاسلم واللاحرب يبدو أنه أصبح مريحا لمعظم القوى المتصادمة في ليبيا طريق اللاسلم واللاحرب يبدو أنه أصبح مريحا لمعظم القوى المتصادمة في ليبيا لم تتوان تركيا، التي تتفاخر ليلا ونهارا بدعمها لفريق السراج، عن القيام بمواءمات في علاقاتها مع عناصر فاعلة في معسكره الفضفاض، وتجنب وضع رهانها كله في سلته وحده، بل استقطبت فتحي باشاغا وزير الداخلية، وتتقاسم توزيع الأدوار مع خالد المشري رئيس المجلس الرئاسي للدولة، وتقوم باللعبة ذاتها مع قيادات كتائب مسلحة، فهي لا تضمن ثبات الأوضاع، وتعتقد في إمكانية تحولها بين فينة وأخرى. أضف إلى ذلك، أنها لم تخف رغبتها في التواصل مع الدول الداعمة للفريق المناهض لها، ولم تعدم الحيل التي تبثها لتثبيت طموحها، لإدراكها أن بحر الرمال العظيم لا يقع في منطقة محددة في ليبيا، بل تنتشر المفردات الدالة عليه في أماكن عديدة. لذلك أخذت تتفهم ضرورة عدم إهمال الصيغة المطاطة التي تمكنها من العبور على حبال مشدودة في أكثر من اتجاه، لأنها تطمح إلى أن يكون لها وجود دائم في ليبيا. تفسر هذه الظاهرة ارتفاع درجة الميوعة في الموقف الأميركي، فتجد واشنطن المؤيدة لتركيا وحكومة الوفاق لا تمانع في الميل لمصر وفريق حفتر، تتقدم أو تتأخر المعادلة، وتنشط أو تفتر، غير أن واشنطن تحتفظ بدفء مع القوى الرئيسة على الجانبين. في الوقت الذي أعلنت فيه دعم مسار التسوية السياسية لم تبرح المسار العسكري، وبدت كمن يقف مع الحل وضده، ومع الميليشيات وعكسها، ومع أنقرة وبعيدة عنها، وهكذا يمكن مد المصفوفة لآخرها ونجد أن معالم السيولة العامة هي سيدة الموقف. تقترب روسيا من هذه الصيغة أيضا، وهي تمثل المعادل الفرنسي لإيطاليا، وتتقاسم مع تركيا لعبة غاية في الخطورة للانغماس في دوامات الأزمة الليبية بوسائل مختلفة، وقد تكون موسكو أقل سفورا من أنقرة، وفي المحصلة ثمة توزيع للأدوار، ومواقف متشابهة في السخونة والبرودة، وتأييد الحل السياسي وعدم الرفض للحسم العسكري. أدت هذه المسألة إلى وضع مطبات أمام المبادرات المطروحة، وحدوث انسداد فاضح في الأزمة الليبية، يكبلها في التحرك إلى الأمام، ويمنعها من التحرك كثيرا إلى الخلف، لأن مصالح بعض الدول لا تتماشى مع التقدم أو التأخر، ففي الحالتين يمكن أن تحدث مفاجآت تؤثر على الحسابات النهائية لهذه القوة أو تلك. يساعد فهم دواعي التذبذب في فك ألغاز كثيرة تسببت في تكريس حالة توازن الضعف، والذي تعتقد دوائر كثيرة أنه من ضمانات السيطرة على مفاصل الأزمة، ومن العوامل التي تمكن القوى الرئيسية الفاعلة من السيطرة عليها، عندما تتوافر الإرادة والرغبة والبيئة المناسبة للتسوية. ويؤدي فقدانها إلى استمرار الغرام بلعبة المراوحة لأجل غير مسمى، وكلما بدا الحسم العسكري قريبا من فريق جرت فرملته، وكلما نشط الحديث عن تسوية سياسية تصب في صالح محور تم التشويش عليه واستدعاء منغصات توقفه. يبدو أن طريق اللاسلم واللاحرب أصبح مريحا لمعظم القوى المتصادمة في ليبيا، وحتى الضجيج الذي يحدث بشأن تفكيك الأزمة وتحاشي المزيد من انفجاراتها بات عملية سياسية في حد ذاته تضمن عدم الحسم في المدى المنظور. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :