كم كنت أتمنى أن تُتَاح لنا في الصحافة والإعلام مساحة أكبر للحديث عن التاريخ السياسي لتركيا منذ تأسيس (الدولة العليَّة العثمانية) على يد عثمان الأول ابن أرطغرل، لتحكم نصف العالم، ويستمر حكمها لستة قرون تقريباً؛ مروراً بعهد كل السلاطين والخلفاء الذين تعاقبوا على حكمها، حتى مرضها، ثم أفول نجمها عام 1923م؛ ثم ظهور مصطفى كمال أتاتورك، الذي ألغي الخلافة العثمانية، ليؤسس مكانها الجمهورية التركية الحالية في أكتوبر من العام نفسه الذي أفل فيه نجم إمبراطورية آل عثمان، ويتخذ أنقرة عاصمة لها، وصولاً إلى العهد الحالي بقيادة رجب طيب أردوغان، تلميذ أتاتورك، الذي لم يكن له من اسمه أدنى نصيب. ومن ثمَّ تحويل البلاد إلى أداة طيعة يستغلها الاستعمار للهيمنة على دول المنطقة، إذ أصبحت تركيا منذ عام 1952م، القاعدة العسكرية الأساسية التي تُحَاك فيها كل المؤامرات، وتُحَدَّد فيها الإستراتيجيات الغربية كلها بليل لإحكام القبضة على العالمين العربي والإسلامي، ومن ثمَّ استسلام تركيا للقوى الاستعمارية. على صعيد آخر، كنت أتمنى أيضاً أن تُتَاح لنا المساحة اللازمة للحديث عن التاريخ السياسي لإيران منذ العهود القديمة، إلى العهود الشاهنشاهية، فالفتح الإسلامي والقرون الوسطى، ثم القرون الحديثة حيث ظهور الدولة الصفوية وتقاطعاتها مع الدولة العثمانية، وصولاً إلى القرون الحديثة المتأخرة والمعاصرة، حيث ظهور مملكة إيران البهلوية، ثم الثورة (الإسلامية المزعومة المشؤومة) والحكومة المؤقتة، فالجمهورية الإسلامية عام 1980م، وحقدها الدفين على العرب. أجل، كنت أتمنى أن يسمح لي المجال بالاسترسال في التاريخ السياسي لهاتين الدولتين (المشاغبتين)، وما يوجد بينهما من تقاطعات وتناقضات واختلافات وتضارب مصالح وتنافس محموم على النفوذ. ومع هذا كله، عندما تعلَّق الأمر باستهداف العرب، أجلتا معركتهما وضمتا إلى تحالفهما عدو العرب التاريخي (الكيان الصهيوني) لتحقيق غايتهما بتفريق شمل العرب والسيطرة عليهم للاستيلاء على مقدراتهم ومقدساتهم.. يحسبونه هيِّناً. وصحيح، رُبَّما استغرب البعض من القاسم المشترك الذي يجمع هذا الثالوث الخبيث، إلا أنه حقيقة واقعة لا تغيب عن فطنة كل حصيف، إذ سبق أن أشرت إلى هذا في أكثر من مقال، من وجود سفارة لإيران في (إسرائيل) تحت غطاء (جمعية الصداقة الإيرانية- الإسرائيلية)، ثم عدم قيام إيران بأي عمل، حتى إن كان مجرد استفزاز جدّي ضد الكيان الصهيوني -مع ما يسدِّده لها الأخير من لكمات عنيفة - أرى أيضاً أنها لذر الرماد على أعيننا، مع تأثيرها أحياناً على الحليف الإيراني ليوفروا لها جرعة أكبر من الصدق. أما تركيا (وريثة دولة الخلافة الإسلامية)، فيكفيها من العار والشَّنار أن لها سفارة في تل أبيب، بينما لإسرائيل سفارة في أنقرة، بل أكثر من هذا: احتفل مسؤولوها مؤخراً -بكل فخر واعتزاز- مع الإسرائيليين داخل سفارتهم بأنقرة بمرور (72) عاماً على تأسيس دولة الاحتلال الصهيوني على أشلاء الفلسطينيين الذين تدَّعي كل من تركيا وإيران مناصرتهم لاستعادة وطنهم السليب من مخالب اليهود.. ناسين أو متغافلين عن دور القومية العنصرية والدول الصليبية وتعاونها مع الحركة الصهيونية في تدبير مؤامرة خلع السلطان عبدالحميد الثاني عن طريق شراء الذِّمم، والقضاء على الخلافة الإسلامية التي يتشدق بها أردوغان تلميذ أتاتورك اليوم، وتشويه تلك الخاتمة من عمر الخلافة، حتى ينفر الناس من مجرد كلمة خليفة أو خلافة؛ مع أن الدولة العثمانية كانت هي الملجأ الوحيد لليهود الذين نجوا من بطش محاكم التفتيش في إسبانيا. والحق يقال، حقد أردوغان على العرب أيضاً حقد دفين، متوارث من الخليفة عبد الحميد هذا الذي ذكر في مذكراته السياسية (1891- 1908م) التي طُبِعت لأول مرة عام 1397هـ/ 1977م، ص29، قائلاً: (إذا أضعنا استانبول أضعنا معها الخلافة، ستؤول الخلافة حتماً إلى العرب).. يكره لنا الخلافة ومنَّا نبيُّ الأُمَّة عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، وعندنا اليوم مثواه الشريف، واختار الله بلادنا لتكون قبلة المسلمين!. والحقيقة، أكره تبديد وقت القارئ الكريم بتكرار ما هو معلوم بالضرورة لكل مهتم بالشأن السياسي في المنطقة والعالم ومتابع له، مما ألحقته إيران (الجمهورية الإسلامية) من دمار وخراب وقتل على الهوية وتشريد وفساد بدول المنطقة، من العراق إلى سوريا ولبنان فاليمن، بواسطة مخالبها الرخيصة في تلك البلدان، وشل الحياة السياسية فيها إلى درجة الجمود، حتى أصبح تعيين رئيس حكومة هنا أو وزير هناك، يستغرق سنين عددا، فتكون البلاد قد غرقت في الفوضى، ويتسع الخرق على الراتق؛ بل عملت إيران بذكاء شديد لتحقيق أهدافها الخبيثة لتغرس عملاء لها في كثير من دول أفريقيا السمراء، وبلغت بها الجرأة حد التغلغل في دول الكاريبي وأمريكا اللاتينية، ناهيك عن تمكنها من دول آسيا التي تحيط بها، سعياً لتحقيق أهدافها بالجزرة أو العصا أو بهما معاً إن تطلب الأمر. قلت: لن أعيد ما هو معلوم بالضرورة، ولهذا أود أن أدلف مباشرة إلى هذا الود الذي ظهر فجأة بين بقية الصفويين وبين بقية آل عثمان، على قاعدة: عدو عدوِّي هو بالضرورة صديقي؛ ونشاطهما المحموم في المنطقة، لاسيَّما فيما يتعلق بموضوع ليبيا التي حالها أشبه ما يكون اليوم بحال الإمبراطورية العثمانية، عندما تكسَّرت عليها نصال الروس والأوروبيين، فمرضت مرضاً شديداً وضعفت وتضعضعت أركانها، مما أدى لأفول نجمها. وهو أيضاً أمر ليس بجديد على المهتمين، فشهية تركيا للاستحواذ على مقدرات ليبيا، قديمة قدم الدولة العليَّة نفسها، إذ سبق أن غزا العثمانيون ليبيا عام 1551م، بقيادة سنان باشا، وحكموها لثلاثة قرون عجاف، مارسوا خلالها أبشع أنواع العذاب والظلم، فأذاقوا الليبيين الأمرين، وتعاقب على حكم ليبيا (72) والياً تركياً، قضى معظمهم قتلاً على أيدي الثوار الليبيين أو انتحاراً بسبب ما كانوا يرونه من فظائع تقض مضاجعهم ليل نهار، نتيجة ما تمارسه دولتهم العلية من قمع وبطش وتعذيب بالليبيين العزَّل المساكين، وسلب لأموالهم وممتلكاتهم، وفعل كل شيء من شأنه إذلالهم والحط من شأنهم وتحطيم نفسهم. ويُذْكر أن مذبحة قبيلة الجوازي الليبية التي تستوطن شرق برقة، كانت من أبشع المذابح التي ارتكبها العثمانيون في حق الليبيين بسبب رفضهم دفع الجزية للأتراك؛ ففي 1817/9/5م، دعا والي طرابلس (45) شخصاً من قادة قبيلة الجوازي لاجتماع بحجة مناقشة الأمر معهم والتوصل لحل يرضيهم، غير أنه غدر بهم، كعهد الأتراك دائماً، فذبحهم جميعاً. وألحق بهم أكثر من عشرة آلاف من أبنائهم من مختلف نواحي برقة. وعندما خلا لهم الجو، استمر العثمانيون في تحقيق هدفهم الحقيقي الذي دفعهم لاحتلال ليبيا، الذي يتمثل في الحصول على الثروة، فارتفعت الضرائب بشكل مذهل، وازدادت شراستهم وتوحشهم في جمعها من الأهالي، فآنئذٍ لم تكن لليبيين حيلة غير الثورة على المحتل الغاشم. فثاروا عليه عام 1835م، بقيادة غومة المحمودي، شيخ المحاميد الذي خاض ضدهم (28) معركة، مما اضطر العثمانيين لنفيه عام 1834م، إلى مدينة طرابزون ليعود لإشعال جذوة الثورة من جديد عام 1854م، حتى مقتله على يد أعدائه في 1858/3/26م. وإثر وأد الثورة الليبية، قدَّمت الدولة العثمانية ليبيا للمحتل الإيطالي على طبق من ذهب، عندما غزا الإيطاليون طرابلس عام 1911م، إذ كان العثمانيون يرون أن طرابلس الغرب من الولايات التي لا تحقق للدولة فائدة كبيرة؛ بل كان خليفتهم يقول: إن حكمنا لبنغازي يكلفنا غالياً، نصرف من أجلها أموالاً طائلة. فهم تجار إذاً يتعاملون بمنطق الربح والخسارة، وليس حماة للإسلام كما يدَّعون. لهذا قرروا أن تخرج ليبيا من يد الأُمَّة العثمانية إلى الأبد، فتخاذلوا واتفقوا على الصلح مع الإيطاليين، وسمحوا لهم باحتلال درنة وطبرق والخمس، دونما أدنى مقاومة تُذْكر. فعاد الثوار الليبيون لتنظيم صفوفهم من جديد، لينتصروا على الإيطاليين في 1911/10/23م، في معركة الهاني؛ إلا أن الدولة العثمانية لم تكف عن غدرها وخيانتها لهم لأنها تتعامل معهم بمنطق التاجر كما سبق، وليس نصيراً للدِّين وخليفة للمسلمين كما تدَّعي، فوقَّعت في 1912/10/18م، معاهدة أوشي التي سلَّمت بموجبها ليبيا للإيطاليين.. إلى غير ذلك مما مارسوه من لعبة قذرة مع السيد أحمد السنوسي، وتوريطه بعد سحبه من أرض المعركة إثر تجريد ليبيا من المقاومة. مع أن أغاني الإيطاليين الشعبية الحماسية أثناء حربهم ضد ليبيا كانت تبلغ سمع (خليفة المسلمين) في استانبول، وجاء في بعضها: أنا ذاهب إلى طرابلس.. فرحاً مسروراً لأبذل دمي.. في سبيل سحق الأُمَّة الملعونة.. ولأحارب الضلالة الإسلامية.. سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن.. ليس بأهل للمجد.. من لم يمت إيطالياً حقَّاً.. تأكيداً لما جاء في الإنذار الإيطالي الذي أعقبه هجوم الأسطول في اليوم التالي: (... إن الدولة الإيطالية تريد فتح أبواب هذه البلاد للمدنية الغربية...)؛ أحقَّاً هكذا ينبغي أن تحمي دولة الخلافة بيضة المسلمين وتدافع عنها؟ بل أقول هكذا إذاً أجادت الدولة العليَّة اللعبة لتلك الهزيمة العربية- الإسلامية، وتسهيل مهمة روما لازدراد ليبيا دفعة واحدة، فظهر أن إيطاليا حقَّقت نجاحاً باهراً يوم عيَّنت حقي باشا صدراً أعظم ليمكنها من رقبة ليبيا. بل قل أسوأ من هذا وأكثر بشاعة: تركيا هي التي شرَّعت أبواب فلسطين السليبة للغزو الصهيوني، مما حدا ببعض المؤرخين للقول: (إن وعد بلفور كان مجرد تحصيل حاصل، أو تتويجاً للوضع الممتاز الذي حصل عليه اليهود في ظل الحكم الدستوري العثماني من 1908- 1913م). كان هذا السَّرد ضرورياً لكي يدرك القارئ الكريم أن ما يمارسه أردوغان اليوم، من دور مصطنع لنصرة الإسلام والمسلمين، بلغ ذروته أثناء ما عرف بـ(الجحيم العربي) الذي ألهب تلميذ أتاتورك جمرته الخبيثة من تونس عام 2011م، مستغلاً أولئك الذين تسمّوا (الإخوان المسلمين) الذين تؤكد ممارساتهم كلها على امتداد تاريخهم منذ ظهور التنظيم على يد كبيرهم حسن البنا إلى اليوم -وأحسب أن الأمر سوف يستمر إلى الأبد- أنهم لا إخوان ولا مسلمين، بل تجار فاسدين استغلوا عباءة الدين لتحقيق مآربهم الشخصية. وعلى كل حال، لن أضيع وقتكم بالاستطراد في هذا الأمر، ويكفي أن أحيلكم مشكورين إلى تأمل ما فعله هؤلاء (اللا إخوان.. اللا مسلمين) بدولة السودان الشقيق خلال ثلاثة عقود عجاف ملأوا فيها الأرض والسماء بشعرات فارغة، كانوا يضحكون بها على الشعب المسالم المسكين، ويسخرون من استكانته، حتى انفجر في وجههم مع كل إمعانهم القمع والقتل والسحل والتعذيب؛ أتذكرون شعارهم المفضل: (هي لله.. هي لله.. لا للسلطة ولا للجاه..)، ثم كان ما كان من فضائح فساد أزكمت رائحته النَّتنة الأنوف، لم تتمكن السلطة الحالية من حصرها حتى الآن خلال عام كامل، كما أكد لي أحد الأصدقاء المتابعين للشأن السوداني؛ ولا يفوتني أن أشير هنا إلى أن العيب في سماسرة الدِّين أولئك، ليس في ديننا السمح الذي شوَّهوا صورته لدى الأمم الأخرى. وبالطبع، لن يكون آخره ما يجري من حشد للمليشيات الإرهابية التي يسوقها أردوغان كالخراف، لتحقيق ما عجز عنه أسلافه من سلاطين بني عثمان وخلفائهم للاحتفاظ بهذا الجزء المهم من العالم العربي، ليكون مورد رزق لهم، لأن الرجل العثماني لا هم له غير الاستمتاع بملذات الحياة على حساب غيره، كما أكد السلطان عبدالحميد الثاني نفسه في كتابه الذي أشرت إليه أنفاً، إذ يقول بالحرف: (إن أساس الأزمات عندنا نابع من قعود الرجل العثماني عن العمل والإبداع. لقد تعوَّد أن يبقى سيداً يأمر غيره بقضاء حاجاته. فالمهم عنده أن يعيش وأن يستمتع بملذات الحياة). بل يؤكد هذا ما سبق من حديثه في الكتاب نفسه ص171: (.. فكل إنسان مكلف بالجد والسعي والتفكير، ومن جد وجد ومن زرع حصد، أمَّا الأتراك فهم لم يدركوا هذا المعنى، وأمَّا السوريون والعرب، فهم أحسن وعياً من الأتراك). كما يؤكد السلطان أيضاً في كتابه ذاك خمول الأتراك حتى عند حديثه عن الفن، إذ يقول في ص191: (صحيح، إننا لم نضف شيئاً جديداً على الآداب والفنون، وكانت فنوننا تتمة للفن الفارسي، لكننا صبغنا هذا الفن بصبغة خاصة بنا). هذا هو إذاً الدَّافع الحقيقي لاندفاع تلميذ أتاتورك تجاه ليبيا، وإصراره على استغلال عاطفة السُّذج فيها لكي يتمكن من إحكام قبضته على الدولة، وجلب خيراتها لبقية بني عثمان ليواصلوا استمتاعهم بملذات الحياة. وقبل أن أعقِّب على غرور تلميذ أتاتورك المغرور هذا، الذي يسعى جاهداً للتوسع على حساب الشعوب العربية التي يرى أنها تمر الآن بأسوأ مراحل ضعفها، لا بد لي من تعليق الجرس في رقبته على لسان معلمه الأكبر السلطان عبد الحميد الثاني محذِّراً: (إن ضعف الدولة العثمانية نابع من اتساع رقعتها.. إننا أشبه ما نكون بنهر منحدر فاض عن مجاريه.. فالدولة العثمانية بسبب توسعها المفاجئ السريع، أشبه ما تكون بشاب ضعيف البنية، لا تقدر بنيته على ممارسة حركات سريعة، وتكون هذه الحركات وبالاً عليها إن هي مارستها). كما لا يفوتني أن أحذِّر الإخوة الليبيين هنا أيضاً من السماح لخيل أردوغان الجامحة المتعطشة لدمائهم وخيرات بلادهم، بتدنيس أرضهم واستباحة ثرواتهم، فهم قوم لا عهد لهم، بل شيمتهم الغدر والخيانة، ونحن هنا في ديرة عبدالعزيز أعلم الناس بهم، وبتاريخهم الأسود في السعي لقهر الشعوب واستحلال أموالهم، فها هو مؤسس بلادنا وصانع مجدنا الملك عبدالعزيز آل سعود، يرفض كل الإغراءات التي قُدِّمت له لكي يوافق على محاربة الدولة العليَّة بشهادة كل من كتب عنه، بمن فيهم السلطان عبدالحميد نفسه، الذي امتدح عفَّة نفس عبدالعزيز وأنفته وسلامة قصده، عندما رفض التواطؤ مع الإنجليز لمحاربة الدولة العثمانية، إذ يقول: (يخطئ الإنجليز إذا ظنوا أنهم سيسيطرون على تصرفات شيخ الرياض عبدالعزيز بن سعود الذي يعرف جيداً حرمة الاقتداء بهم)؛ حتى مع قناعته بعدم ثقته بأي والٍ تركي أو مبعوث، نتيجة ما رآه من تآمرهم سراً وجهراً، لأنه كان صادقاً في نيته في إعلاء كلمة الله وخدمة المسلمين. فكان يُردِّد دوماً: (لن أترك لأحد أن يقول عني إني طعنت دولة تحمل اسم الخلافة في محنتها)؛ وشهد له فيلبي: (إن عبدالعزيز لم يسهم بأي مجهود مادي في سقوط الترك). وخلاصة القول في هذا الشأن: أجمعت الروايات كلها على أن عبدالعزيز لم يحارب الأتراك، بل كانت الفكرة السائدة بين رجاله: أنه لم يحارب تركيا، وأن ذلك من مفاخره وما يُذْكر به، فيُشْكر عليه. بل أكثر من هذا وأعظم مروءة: أكد عبدالعزيز حرصه على تأكيد تلك العلاقة الخاصة التي تربط المسلم بالجندي العثماني حتى إن كان كارهاً، ولهذا عندما تمكن من كسر شوكتهم وطردهم من بلاده نهائياً إلى الأبد إن شاء الله، في معركة الشنانة التي حدثت في 122/7/18هـ، الموافق 1904/9/29م، حذَّر جنوده بلهجة واضحة صريحة: (لا تنزعوا من الجندي العثماني سلاحه)؛ فحملهم على ركائبه، وأرسلهم مكرمين في خفارة الأمير أحمد بن ثنيان الذي عاش في تركيا ويجيد اللغة التركية، بعد أن جمَّد الرُّعب من ابن سعود الدَّم في عروقهم.. لكن للأسف الشديد، عندما وصل أولئك البحرين، وجدوا من شجَّعهم على العودة واستخدام السلاح الذي تصدَّق به ابن سعود عليهم ضدَّه. ألا تذكرون أني أؤكد لكم في كل مرة أن الأتراك لا يرعون العهود؟ بل هم قوم ديدنهم الغدر والخيانة والطعن في الظهر. أسوق هذا الحديث حتى لا ينخدع أحد من أولئك السُّذج بأن تركيا جاءت فعلاً نصرة لهم وخدمة للإسلام ونجدة للمسلمين كما يتوهمون. فالتاريخ يؤكد لنا أنهم قوم لا إلاًّ لهم ولا ذمة، وأنهم كسالى يريدون أن يعيشوا على عرق الآخرين من خلال بسط النفوذ وإحكام والسيطرة تحت شعارات براقة لم تعد صالحة اليوم لدغدغة غير السُّذج المغفلين. وإن كنت لا ألوم تلميذ أتاتورك الذي (استترك) أكثر من معلمه العلماني، في بحثه الشره عن موارد خصبة لتلبية حاجة شعبه الكسول من المال لينعم بالملذات، وأطغاث الأحلام التي تعشِّش في خياله المريض باستعادة (مجد الخلافة الغابر) من خلال سعيه المحموم لشراء الذِّمم بثمن بخس، وإقامة قواعد عسكرية (عثمانية) في العراق، سوريا، قطر والصومال؛ ومواصلة مساعيه الحثيثة لإقامة قاعدتين في كل من أثيوبيا والسودان، ظنَّاً منه أنه بهذه الطريقة يكون قد أطبق الخناق على دولة الرسالة لكي ينقض عليها في اللحظة المناسبة ليسطر على الديار المقدسة، ومن ثمَّ يعلن نفسه خليفة للمسلمين؛ فيجلس في قصره العالي الذي يتألف من أكثر من ألف غرفة، ليأتيه الخراج رغداً من (الولايات العثمانية) كسائر سلاطين بني عثمان وخلفائهم. أقول: لا ألوم رجب طيب أردوغان الذي ليس له من اسمه أدنى نصيب، إلا أن ما يُدْمي القلب حقاً هو انسياق بعض أشقائنا، أبناء جلدتنا خلف سراب أوهامه وأطغاث أحلامه والعمالة له؛ فها هي دولة قطر -التي كانت ذات يوم شقيقة- أبعدت النجعة بينها وبين محيطها العربي، وتنكَّرت لكل القيم والأخلاق الحميدة التي تطبع شخصية العربي الأصيل، عندما فتحت البلاد على مصراعيها لأعداء الأُمَّة من بقية الصفويين وبقية بني عثمان. وأوقفت ميزانيات هائلة لمنصات إعلامية داخل البلاد وخارجها من (قناة الفتنة وأخواتها)، إلى مرتزقة الإعلام الذين ينعقون لكل من يدفع أكثر، إلى شيوخ الفتنة الذين هم على استعداد تام للعق أحذية من يدفع لهم أكثر كما أكد سيف الإسلام القذافي، مندهشاً من تحول زعماء (الإخوان المسلمين) -المسيطرون الحقيقيون على (قناة الفتنة) بشهادة حمد بن جاسم آل ثاني، رئيس وزراء قطر الأسبق، وزير الخارجية، وأحد الحمدين- الذين صبُّوا جام غضبهم على والده وعليه إثر اندلاع جمرة (الخريف العربي) في ليبيا قبل أن ينفد ما حصلوا عليه من أموال وعطايا من القذافي. فاسمعوا يا رعاكم الله، هذا تلميذ أتاتورك يخاطب نوابه مؤكداً: (إن تركيا هي أكبر من تركيا الحالية، يجب أن تعلموا هذا جيداً، لا يمكن أن نكون محاصرين في 780 كيلومتراً مربعاً، هي مساحة تركيا الفعلية، لأن حدودنا الجسدية والقلبية مختلفة.. وصحيح، قد يكون إخواننا في الموصل، كركوك، الحسكة، حلب، حمص، مصراتة، سكوبي وأرض جزيرة القرم كلها، قد تكون خارج حدودنا الفعلية، إلا أنهم ضمن حدودنا العاطفية، وفي قلوبنا. وعليه سنتخذ كل التدابير اللازمة ضد أولئك الذين يحاولون تحديد تاريخ تركيا وأمتنا بتسعين عاماً -أي ما بعد الدولة العثمانية- كما أننا سنعيد النظر في الكتب المدرسية بداية من التعليم الابتدائي. نعم، ينبغي علينا اتخاذ كل التدابير الضرورية لكي نربط أمتنا بثقافتها وحضارتها وتاريخها- أي العثماني). أجل، هذا هو الوجه الحقيقي لأردوغان الذي طالما حاول جاهداً إخفاءه خلف قناعه الزائف بدغدغة مشاعر السُّذج وتوظيف الجهلاء الخونة لتنفيذ أجندته الخبيثة وتحقيق أوهامه باستعادة مجد أجداده الغابر. وكما أسلفت، معذور تلميذ أتاتورك لأنه يبحث عن مصالح (إمبراطوريته ومجدها الآفل)، غير أن العتب علينا نحن العرب الذين تفرقنا مذاهب شتى حتى في البلد الواحد، إذ تجد في بعض البلدان العربية للأسف الشديد، نحو (150) حزباً سياسياً وأكثر من (50) حركة مسلحة، كل حزب يتجه شرقاً أو غرباً، وكل حركة مسلحة تقاتل أهلها أو أختها بسلاح تجار الحروب وسماسرتها مثل أردوغان هذا، مدفوعين بجهلهم بالدِّين وسذاجتهم وشرهم لجمع المال من حرام وحلال.. لا يهم، المهم أن تنتفخ أوداجهم وتمتلئ جيوبهم. وصحيح، كتبت كثيراً عاتباً على جامعة الدول العربية بصفتها بيت العرب والكيان الوحيد الذي (يُفْتَرض) أن يضم الجميع، طالباً إليها بصوت ملايين العرب أن تفض سيرتها، ومن ثمَّ تفكر في آلية تحفظ للعرب حقوقهم وتجعل مثل هذا الأردوغان يرعوي ويخشى مجرد رسالة منها ولو مقتضبة. كما يمكن توسيع هذه الآلية بشراكة جادة مسؤولة مع شركاء آخرين ممن يعانون مثلنا وإن كان بطريقة مختلفة، كدول الكاريبي وأمريكا اللاتينية وآسيا. وبالطبع لا يفوتني هنا أن أشير إلى إهمال العرب للدول الأفريقية السمراء التي حزَّ في نفسها عدم تواصلنا معها، فتحزَّبت شرقاً وغرباً، تماماً كما فعلت أحزاب بعض البلدان العربية، مما جعلنا نخسر قوة فاعلة مؤثرة. وصحيح أيضاً أنني أدرك صعوبة المهمة، إلا أنني في الوقت نفسه، أدرك أنها غير مستحيلة، وتستحق منَّا كل ما يبذل فيها من جهد وتعب وعرق، وما يصرف فيها من أموال؛ فلدينا كل الإمكانات المطلوبة، ونفتقر فقط إلى إرادة سياسية جادة صادقة مسؤولة، تعي ضرورة العمل الجماعي، على الأقل فيما يتعلق بتأسيس آلية ذات أسنان قوية حادة للدفاع عن الكل ضد أي تهديد خارجي، بل أيضاً حسم أي منازعات تظهر -لا سمح الله-، داخل البيت العربي.. إن كنَّا قد فعلنا هذا من زمان، لتفادينا اعتداء صدام حسين على الكويت وما جره على المنطقة من خراب ودمار لا يزال لهيب ناره يصلي الجميع؛ ولكنَّا اتخذنا مكانتنا اللائقة بنا بين المخترعين والمبدعين في العالم. لكن لأن الغرب لا يريد لنا غير أن نظل إلى الأبد مشغولين بهذه المعارك الجانبية، حتى نبقى عاجزين عن كل شيء، فنحيله (للكبار) ليلعبوا بنا كيفما شاءوا، ويبتزونا لنهب ثرواتنا. وإلى ذلك الحين الذي نستطيع فيه الوصول إلى كلمة سواء، والاتفاق على آلية فاعلة ذات أسنان قوية حادة وعين حمراء حاسمة، تضع حداً في الحال لكل مهدد لقدراتنا ومقدراتنا إن كان خارجياً أو داخلياً.. إلى ذلك الحين، أُذكِّر تلميذ أتاتورك -الذي استترك أكثر من معلمه- على لسان المؤسس الملك عبدالعزيز بتلك المقولة الشهيرة التي أوجز فيها رؤية تركيا تجاهنا نحن العرب: (اكتفيتم بأن تحكموا، وما تمكنتم حتى من ذلك. أردتم أن تحكموا العرب لتحقيق مصلحتكم، فلم توفقوا إلى شيء من هذا أو ذاك.. لم تنفعوهم ولا أنتم نفعتم أنفسكم). مقدماً لأردوغان وأمثاله تحليلاً دقيقاً لمأساة الدولة العثمانية. أجل، لقد تفرغ الأتراك لمهمة واحدة هي الحكم والحرب، فلم يحسنوا هذه ولا تلك؛ وكلما زاد عجزهم، اشتد بطشهم، فعجل ذلك بانهيارهم وأفول نجم إمبراطوريتهم.. ألحقوا الضرر بالعرب بإبقائهم متخلفين مختلفين متناحرين، ليصبحوا لقمة سائغة للقوى الأجنبية الاستعمارية. كما ألحقوا الأذى بأنفسهم بمحاربة العرب.. فانشغلوا وشغلوهم عن العدو الحقيقي لهما معاً وشتتوا انتباههم. وأختم بتأكيد جازم لأردوغان -وغيره من الطامعين فينا وكل من تسوِّل له نفسه الاعتداء علينا- إن أي أطماع بتعطيل دولة الرسالة عن أداء واجبها، تظل مجرد أضغاث أحلام، فصليل سيوفنا وضجيج مدافعنا وصهيل خيلنا في معركة الشنانة التي حدثت قبل أكثر من مائتي سنة، لا تزال تطرب مسامعنا وتثير الحمية فينا لردع كل من تسوّل له نفسه الاعتداء على مقدساتنا والعبث بمقدراتنا؛ فذرة رمل واحدة من ثرانا الطاهر، ترجِّح في ميزاننا بتراب الأرض كله.. فنحن قوم أصحاب رسالة، لا تجار دين وسماسرة حروب لاسترقاق الشعوب ونهب خيراتها وتسخيرها لخدمتنا كما يفعل الحمقى المغفلون.. والسلام.
مشاركة :