الوطن، تلك الكلمة التي تتكون من حروف خمسة، غير أنها تستدعي معها معاني، من فرط تزاحمها يعجز اللسان مهما أوتي من فصاحة أن يتكلم عنها، والقلم مهما وهبه الله من جريان أن يخطها في كلمات جامعة مانعة، والفكر مهما كانت حكمته أن يحيط بها، ذلك أن الوطن هو السياج الحامي الذي يشعر الفرد أن له جذور يرتكز عليها تشده إلى الأرض وتصلب عوده، وأنه ورقة في شجرة تغرس جذورها في أعماق تربة روتها الأجيال بالعرق، ورعتها بالعمل الذي لا يتوقف، والجهد الذي لا يعرف الكلل أو الملل، والتجرد الذي تلاشى معه كل مجد فردي، أملاً في غد أكثر إشراقاً لنا ولأبنائنا. لذا، استوقفتني بطويل تأمل، كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في لقائه خلال هذا الشهر الكريم، والذي أوشك أن يودعنا، إن الدولة مهما عظمت مواردها المالية، وعلا بنيانها واتسعت رقعتها، لا تستقيم أبداً دون تضحيات وعطاءات أبنائها وبناتها، فالوطن بحاجة إلى طاقات وسواعد وعقول أبنائه في كل موقع، وفي كل زمان ومكان، لنحفظ للوطن هيبته وكرامة شعبه واستقلاله واحترامه بين الدول، مذكراً بقول مأثور وطن لا تحميه، وطن لا تستحق أن تعيش فيه. والحق أنها رسالة جامعة لأبناء الوطن كافة، بأن السياج الآمن الذي يحفظ للوطن مكتسباته والثروة الحقيقية له، التي لا تنضب أبداً وتنجد دوماً، هو أبناؤه القادرون على البذل والعطاء في سبيل رفعة شأن وطنهم. ومحبة الوطن لا اختيار للفرد فيها، فهو مجبول عليها، تولد مع ميلاده كمحبته لأمه، وهل للمجبول اختيار؟ آية ذلك والشاهد عليه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة، نظر خلفة مخاطباً أم القرى قائلاً: والله إنك أحب بقاع الأرض إلى نفسي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت. ولأن محبة الوطن فطرة، كان الموت دونه من أعلى مراتب الشهادة، كما أن التولي حين يحتاج الوطن أبناءه، من الكبائر، والكيد له ومساعدة من يريدون به الشر خيانة عظمى، لذا، فإن حب الوطن والدفاع عنه عندنا ليس من المروءة أو الواجب فحسب، بل هو عندنا دين وعبادة نتقرب بها إلى الله، ونرجو بها الدرجات العلا. ولأن لكل أمر علامات، فإن التضحية بالنفس والمال وكل غال ونفيس، هي العنوان الأكبر لحب الأوطان والزود عنها، ذلك أن بناء الأوطان، لا يتم إلا بتضحيات أبنائه، التي تتعدد أشكالها وتتنوع ميادينها، تلك التضحيات التي تستخرج من طاقات الشعوب أفضل ما لديها. أين تلك الحضارات التي شيدت على مدار التاريخ دون تضحيات من أبنائها؟ وكما أن بذل الروح دون الوطن من أسمى درجات التضحية، لأنها أغلى ما يملكه الإنسان، غير أن حماية الوطن لها أبواب شتى، ولقد قام اتحاد الإمارات على التضحية ابتداء، حين استظلت قيادات الإمارات تحت راية الاتحاد، وحين كان الاتحاد هو التحدي الأكبر، كانت التضحية لبناء دولة موحدة قوية، ومع كل يوم كبرت فيه شجرة الاتحاد، عظم معها البذل والعطاء، بحجم التحديات التي واجهت بناء دولة حديثة، غدت نموذجاً يحتذى به، وتبوأت مكانها في مقدم الأمم، ورياح الخير والنماء تهب من أرضها، ليسعد بها أبناؤها والمقيمون عليها، بل وشملت بطيبها أرجاء المعمورة. وفي تقديري، أن من أسمى صور حماية الوطن، أن يتحمل أبناؤه مسؤوليتهم في دفع مسيرة التنمية، باعتبار أن للتقدم جناحين، أحدهما يتمثل في الدور الذي تقوم به المؤسسات والدوائر الرسمية للدولة، والآخر تقوم به المؤسسات الأهلية والخاصة، التي نشأت في كنفه ونعمت بخيراته، ووجب عليها أن ترد له الجميل، وآية ذلك، تلك المبادرة النموذج التي قام بها رجل الأعمال عبد الله الغرير، وتبرعه بثلث ثروته إلى مؤسسة تعليمية لأغراض خيرية، وهو نموذج لرجل الأعمال الذي ينشغل بواقع أمته، وتطبيق عملي لكيفية حماية الأوطان بالعلم، فبالعلم يحيا الوطن. إنه من الأهمية بمكان، أن يدرك كل فرد من أبناء الوطن، أنه على ثغر من ثغوره، وعليه أن يحذر أن يؤتى منه، مهما كان مجال عمله وطبيعة مسؤوليته، وحماية الوطن تتطلب من طلاب الجامعات أن تكون تخصصاتهم الجامعية، هي ما يحتاج إليه بناء وطنهم، لا ما يرغبونها هم فحسب، ومن الجامعات، أن ترفد المجتمع بكوادر وطنية تمتلك مهارات نوعية قادرة على التميز والابتكار، كما تتطلب من المراكز البحثية، أن تضع معوقات التنمية على مائدة البحث العلمي، لتقدم خطط عمل قائمة على الحلول المبتكرة والأفكار غير المسبوقة. وإذا كان وطناً لا تحميه، لا تستحق أن تعيش فيه، فإن وطناً أظلك بظله ونعمت بخيره، جدير بأن تفنى دونه.
مشاركة :