«رسالة الغفران» بين المعري ودانتي وملتن

  • 7/14/2015
  • 00:00
  • 51
  • 0
  • 0
news-picture

لعل قضية التأثر والتأثير من أشق القضايا التي يواجهها الأدب المقارن على الخصوص عندما يعرض لمسألة يرى فيها شبهاً مع مسألة أخرى قريبة منها في أدب آخر، من النوع الشبه الذي وجده المستعرب الإسباني ميغيل أسين بلاسيوس بين "رسالة الغفران" للمعري و"الكوميديا الإلهية" لدانتي. منذ عقد بلاسيوس مقارنة بين العملين في كتاب له مشهور تحدث فيه عن بعض أوجه الشباب بين تمثُّلي كل من المعري ودانتي للآخرة. هذه المقارنة في رأي معظم الباحثين لا جدوى منها؛ لأن دانتي لم يكن بوسعه الاطلاع على "رسالة الغفران" التي لم تترجم إلى أي لغة، بل لم تحدث حتى في الأوساط الأدبية العربية نقاشاً من شأنه إثارة فضول الإيطاليين أو سواهم من الأوروبيين. إلا أن عملية السعي للتقريب بين العملين كان لها مفعول سحري مباشر، إذ أخرجت "رسالة الغفران" من عزلتها الطويلة في عالم التراث العربي، ورفعت من ثمنها لدى فئة واسعة من الباحثين العرب والأجانب، إلى حد القول -دون مبالغة- إن دانتي أثّر في المعري، وليس العكس. صحيح أن دانتي كتب "الكوميديا الإلهية" بعد "رسالة الغفران" بثلاثة قرون، إلا أن تأثيره واضح في نظرتنا لكتاب المعري وطريقة تناولنا له. فنحن حين نقرؤه، نقرؤه باحثين في صفحاته ومنقبين في أرجائه عن دانتي! لم يعد بإمكاننا تناوله كما تناوله القدماء، أو كما نظر إليه المعري نفسه. في "رسالة الغفران" لا يلتقي ابن القارح بالشعراء العرب فقط، وإنما أيضاً بالشاعر الإيطالي. دانتي حاضر في كل مشهد منها، والحوار بينه وبين المعري لا يتوقف لحظة. لم يعد أحد من العرب قادراً على قراءة "رسالة الغفران" بمعزل من الكوميديا الإلهية. فدانتي -والحالة هذه- هو الذي أثر في المعري وليس العكس. ويبدو أن هذه المقارنة بين المعري ودانتي قد وهبت الحياة لكتاب المعري الذي لم يعره العرب القدماء اهتماماً يُذكر. فمعاصرو أبي العلاء ومن جاء بعدهم إلى بداية القرن العشرين لم يهتموا به، وهم يذكرونه بصفة عابرة ضمن قائمة مؤلفاته دون أن يتعرضوا لموضوعه أو يتطرقوا إلى جانب من جوانبه. وبصورة عامة فإن "رسالة الغفران" لم تكن تتميز في نظرهم عن باقي رسائل المعري "كرسالة الملائكة" أو "رسالة الإغريض" ولم يحكموا عليها إيجاباً أوسلباً. وحده الذهبي قال إنها "احتوت على مزدكة واستخفاف، وفيها أدب كثير"، دون أن يحدد ما يعني بالمزدكة أو يشرح ما يقصد بالاستخفاف. ومع أن الدكتور طه حسين بثلاثيته المشهورة: "تجديد ذكرى أبي العلاء"، و"مع أبي العلاء في سجنه"، و"صوت أبي العلاء" هو أبرز الباحثين العرب الذين درسوا أدب أبي العلاء المعري وشعره، إلا أنه لم يعرض إلا قليلاً للشبه الظاهري بين "رسالة الغفران" وبعض أدب الإفرنج. فقد ذكر في كتابه "تجديد ذكرى أبي العلاء" إن الفرنج يشبهون "رسالة الغفران" بكتاب (ملتن) الإنكليزي الذي اسمه "الجنة الضائعة". وهو موقف حيادي من عميد الأدب العربي لا يؤيد فيه شبهاً ما، أو تأثيراً ما لمؤلف المعري مع أي مؤلف غربي سواء كان اسمه "الجنة الضائعة" لملتن أو "الكوميديا الإلهية" لدانتي. ولكن هناك مؤيدين لدعوى التأثير كصاحب مقالة "أبوالعلاء المعري وجون ملتن الإنجليزي" الذي ظهرت في شهر مايو سنة بمجلة "المقتطف" في القاهرة. فقد لاحظ الباحث أن الشاعرين: "المعري وملتن يشتركان في شكوى العمى والتعوّد على المكاره ومتاعب المناصب وعدم استئمان جانب الناس والحذر من المكائد". ومن مؤيدي الدعوة أيضاً سليمان البستاني الذي ترجم إلياذة هوميروس إلى العربية، وقال في مقدمة هذه الترجمة المنشورة عام : "إن المعري جمع شتيت المعاني وأوغل في التصور حتى سبق ملتن الإنجليزي إلى بعض تخيلاتها. وجرجي زيدان الذي كتب في الجزء الثاني من كتابه تاريخ آداب اللغة العربية إن أبا العلاء سبق ما فعله ملتن الإنجليزي في ضياع الفردوس فلا بدع إذا قلنا باقتباس هذا الفكر عنه. وهناك عبدالعزيز الميمني الذي يقول في كتابه "أبوالعلاء وما إليه": "وما ملتن الإنجليزي صاحب "الفردوس الغابر" إلا من الأتباع". ولكن من الباحثين العرب من يرفض الدعوى كبنت الشاطئ -وهي متخصصة في المعري- إذ تقول في "الغفران: دراسة نقدية": "أما نحن فما نرى اتفاق شاعرين في الحديث عن عالم آخر سبباً يكفي للحكم بالأخذ، إذا ما اختلف الجو والموضوع وتباعدت الروح وتغاير التناول وتباين الأداء". ملتن، استناداً إلى كل ذلك، يستحق الشفقة. ذلك أن الناقد الأميركي برتون راسكو اتهمه في كتابه "عمالقة الأدب" الذي نقله إلى العربية وراجعه دريني خشبة وأحمد قاسم جودة بأنه سرق موضوع "الفردوس المفقود" أو "الجنة الضائعة" بحسب تسمية طه حسين، وبحذافيره، من أديب إيطالي غير مشهور، استناداً إلى ما قاله بلس بري الأستاذ بجامعة هارفارد، والباحث الإيطالي فرنسيسكو زيكاري، ونورمان دوغلاس، من أن ملتن سرق "الفردوس المفقود" من مسرحية آدامو كانوتو للكاتب الإيطالي سيرافينون دلاسالاندرا. وها هو ملتن متهم بأنه سرقها من المعري. ولكن من الباحثين من يرى أن لا أثر لأبي العلاء المعري في ملتن، فكل منما مستقل عن الآخر وذو سيادة كما نقول اليوم، وينتهي مع ذلك إلى نتيجة أهم من مسائل التأثر والتأثير: وهي كون هذين المفكرين الكبيرين، المعري وملتن، حلقتين متصلتين فيما يمكن تسميته بأدب الآخرة، حيث يبحث الكاتب مسائل الميتافيزيقا من خلال الوجدان، ويبحث في علاقة الإنسان بالقوى السماوية بعد أن بحث في علاقته بنفسه وبالآخرين. واستناداً إلى هذا النظر، فإن المعري وملتن جزء من موروث أدبي متصل، وهذه صلة أعمق من أي تأثير سطحي. ولكن هذا الموضوع المثير حول علاقة مفترضة بين فيلسوف المعرة وكل من دانتي وملتن جدير بأن يستعاد اليوم رغم كل ما كتب حوله. وعلم الأدب المقارن هو المؤهل أكثر من سواه لتجديد البحث فيه على ضوء أبحاث كثيرة تناولته في الغرب وفي بلادنا العربية أيضاً. أما القول بأن دانتي لم يطلع على "رسالة الغفران" لأنها لم تترجم من العربية إلى اللغات الأوروبية في القرون الوسطى، فليس كافياً لوحده للقطع بأنه لم يطلع على كتاب المعري المذكور. فقد يكون وصله فحوى الكتاب بوسائل أخرى كثيرة.

مشاركة :