أنا على يقين بأن أكثر الناس حديثا عن الحب ومعرفة بالحب هم أولئك الذين لا يعيشون الحب، أو هم فرغوا منه فصاروا كالمهزوم الذي يحكي بطولاته للفتيان والأغرار. أما من ينسحق في الحب، فلا قدرة له ولا وقت على أن يكون الوجه والمرآة في ذات اللحظة، لأن الأسماك لا تتعلم السباحة ولا تعلمها، بل تتذكرها فقط عندما تكون على الموائد مقلية أو مشوية. كذلك يبدي الناس اندهاشهم عادة من الكاتب الدرامي الذي يتناول تفاصيل فئة أو شريحة اجتماعية بإتقان العارف والمعايش دون أن ينتمي إليها. المسألة طبعا ليست تصويرا فوتوغرافيا باردا للمشهد المعاش، وإنما انتقائية فنية وقصدية معرفية تشكل سر المهنة التي لا يلعبها إلا الموهوبون من الذين اكتفوا بالمراقبة من فوق التلة، والمتفرج فارس دائما كما يقولون. إن من يكتب بلغة أو لهجة لا يحلم ولا يغضب بها يصبح أكثر إتقانا لها، ذلك أن المسافة تسمح له بالتزويق والدخول في غواية التحدي ولذة الذهاب نحو الآخر، فليس هناك ما هو أروع من تقبيل الحياة بأكثر من فم. الانتماءات كالأثواب، تضايقنا أحيانا، نبدلها، نقصر فيها أو نوسع، ولكننا لا نستغني عنها، فما أصعب وما أمر أن تقف على تخوم الأشياء وأطرافها، تلامسها ولا تحضنها، تبللك ولا تستحم فيها، كأن قدرك أن تكون ناظر محطة يعرف مواعيد القطارات واتجاهاتها دون أن يركبها. أستغرب أحيانا من الذين لا يجدون إلاّ أنفسهم وحياتهم الخاصة مادة للكتابة الروائية، هل أصيبوا بقصر النظر أو الفقر في الخيال والمعاشرة؟ الأعمال الفنية العربية التي أدغمت فيها شخصيات الكاتب بالراوي بالشخصية الأساسية ضمن صوت واحد وصريح هي قليلة جدا، لا بسبب الرغبة في النزوع نحو الالتباس الفني، وإنما خوفا من مصارحة قد ترخي بتبعاتها على الأهل والأصدقاء. أعرف سيدة انفصلت عن زوجها بسبب رواية كتبتها لأن رجلا قد ظهر، ويزعم أنه بطلها الفحل المقصود متنقلا بنسخة من الرواية بين المقاهي، وقد وضع خطا تحت اسمه المغوار، وأعرف رجلا فضح سره الورق، فتسابق الناس على نبذه وأوغل في الغربة والانبتات، فصغر حجمه في عيون الآخرين. الخائفون هم الذين لا يستطيعون الحديث عن خوفهم، والشرفاء هم الذين تحدثوا عن عارهم بشرف.. وأروعهم هم الذين تحدثوا عن غيرهم بأنفسهم أو عن أنفسهم بغيرهم، فكانوا الدمية ومحركها، ولم يتحدثوا عن الكتابة بالكتابة، فما أنبل وما أعظم أن يكون الواحد الوجه والمرآة، وتصنع المسافة من مادة المطاط.. تطول وتقصر كما نريد لها أن تكون دون أن نخاف إلاّ من الخوف.
مشاركة :