غرِّدقبل خمسين عاماً تقريباً وبعد وفاة والدتي وقبل أن أدخل في عامي السابع بقليل جئت مع أبي من اليمن حيث تقع قريتنا بالقرب من الحدود السعودية نزلنا في قرية سعودية على الحدود اليمنية تبعد عن قريتي الأصلية أقل من ١٠ كيلومترات وفي تلك الفترة كان اليمني يعامل معاملة السعودي في كل شيئ تقريباً عشنا فترة بسيطة ثم عاد أبي إلى اليمن وتركني عند قريبه السعودي الذي لم يرزق بأبناء وبعد أيام جاءنا خبر وفاة أبي فقرر قريبه أن يتولى تربيتي ورعايتي وأن يلحقني بالمدرسة وبعد أعوام بذل جهده في استخراج جنسية لي وماهي إلا أشهر حتى حصلت عليها مثلي مثل الكثير من الذين منّ الله عليهم بهذه النعمة العظيمةكنت محباً للعلم والتعلم فاجتهدت حتى تخرجت من الثانوية بنسبة ٩٠٪ فطلبت من عمي أن أسافر إلى الرياض لأدرس الطب فوافق مباشرة وانتقلت إلى الرياض وانخرطت في الدراسة والتحصيل حتى تخرجت طبيباً وقدمت أوراقي على إحدى الجهات المرموقة وتم قبولي ثم ابتعثت إلى الخارج لأعود بتخصص دقيق وخبرة كبيرة وترقيت في المناصب حتى أصبح لي شأن كبير وكنت أزور أقاربي في قريتنا بين الفينة والأخرى وقد صادف أن دعيت للمشاركة بورقة عمل في مؤتمر طبي عالمي هام في المنطقة وبعد أن أكملت عملي قررت أن أقضي يومين في أحضان الطبيعة بقريتي الصغيرة والتي كنت أستمتع كثيراً بالذهاب إلى المزرعة التي يمتلكها عمي وقد شدني نشاط وجدية العامل اليمني الذي كان يتولى رعاية الأغنام حيث أخبرني عمي أن هذا العامل من قرابتنا وعندما جلست معه اكتشفت أننا في نفس العمر واننا كنا نلعب سوياً في أزقة القرية قبل أن آتي إلى السعودية جلست معه يوماً كاملاً تقريباً وكنت أراقب جدوله حيث كان يستيقظ عند أذان الفجر فيصلي ثم يذهب ليساعد صغار الغنم على الرضاع من أمهاتهم ثم يفطر على عجل ليخرج بعدها بأغنامه للمرعى متنقلاً من مكان إلى آخر ثم يرجع قبيل الظهر بقليل ليعود لإرضاع الصغار من جديد وما يلبث أن يصلي الظهر ثم يقوم بصنع غدائه وبعد الغداء يأخذ حماره ليجمع عليه بعض العلف الذي يقوم بحصده من أطراف المزرعة ثم يذهب للرعي من جديد إلى الساعة الخامسة عصراً ويعود بعدها للصغار ليرضعهم من جديد ويقوم بسقي دوابه وتقديم العلف الذي جمعه بالظهر ولا ينتهي إلا مع أذان المغرب فيذهب بعدها لبركة المزرعة ويقوم بالاغتسال وبعد صلاة المغرب يبدأ في تحضير عشائه الذي لا يحتوي إلا على خبز خبزه في تنور من حديد وبازلاء وكوب من الشاي ولا ينتهي إلا مع أذان العشاء حيث يصلي العشاء ويخلد لنوم عميق في الهواء الطلق دون أن يستخدم أي وسيلة من وسائل التحضر وكان هذا جدوله اليومي دون كلل أو ملل وفي كل المواسم صيفاً وشتاء وفي كل الاجواء المشمسة والممطرة وفي كل الأيام العادية والموسمية كالعيد ورمضان فسألت عمي كم يتقاضى على هذا العمل فقال كل العمال الذين يعملون مثل عمله لا يتجاوز راتب الواحد منهم ألف وخمسمائة ريال فأصابتني قشعريرة عظيمة هل تعلمون أن قريبي العامل يعمل ١٥ ساعة يومياً أي ٤٥٠ ساعة شهرياً أي ٥٤٠٠ ساعة سنوياً ليتحصل على مبلغ ١٨.٠٠٠ريال والتي حصلت عليها مقابل ساعة واحدة فقط حيث أن هذه تكلفة مشاركتي في المؤتمرفيا الله أيام بسيطة في بداية حياتي وكيلومترات قليلة بين قريتي الأولى والثانية جعلت هذا الفارق الشاسع بيني وبين قريبي فبعد مشيئة الله عز وجل لو تأخر والدي رحمه الله في المجيئ إلى السعودية هذه الأيام فمن الممكن أن أكون اليوم راعٍ للأغناموهنا أرسل رسالة لكل سعودي أن احمد الله على ما أنت فيه من نعيم ورغد وسعة رزق وأمن وأمان وسعادة أسرية وعائلية واجتماعية واحمد الله على ولاة أمرك الذين لا يألون جهداً في أن تبقى هذه الدولة أبية شامخة وأن تبقى أنت في هذا النعيم المقيم وكن معول بناء لا معول هدم.كتبه بتصعلي الحربيمعجب بهذه:إعجابتحميل...
مشاركة :