تعتمد الجماعات الإرهابية اليوم في كل ما تتلطخ به أيديها من فظائع لم يعهد لها التاريخ مثيلاً، من استباحة للمدن والقرى، ومباغتة أهلها وهم غافلون، وقتل الرجال وسبي النساء، وإحراق بعضهم وهم أحياء، على شرعية "جهاد الطلب"، الذي يعني فقهياً "ابتغاء العدو في عقر داره". إن من أوجب الواجبات، في سياق إجهاض مشروع تلك الجماعات الإرهابية، أن نعيد إلى الجهاد الصحيح، الذي هو محصور بجهاد الدفاع، أو بلغة الفقهاء» دفع الصائل»، شرعيته التي دفنتها السياقات السياسية الماضوية، لصالح مشروعات دنيوية لا علاقة لها بسماحة الإسلام، وكونه نزل رحمة للعالمين والمشكلة هنا أن هذا العدو الذي سيُبتغَى في عقر داره، قد يكون مخالفا مذهبيا فحسب، وقد يكون مخالفا سياسيا، كما هو حاصل الآن من تكفير متبادل بين بعض تلك الجماعات نفسها. هذا الوضع الشائك والمعقد، لن يُحل بمجرد محاولة تأويل شرعية جهاد الطلب بأنه محصور بشروطه وظروفه، وإنما يُحل، جزئيا على الأقل، بالتشريع ل"جهاد الدفع" بوصفه الجهاد الشرعي الذي جاء به الإسلام، والذي يتفق مع مبادئه العظام، من ابتغاء السلم والعدل والإحسان والرحمة. إن من أوجب الواجبات، في سياق إجهاض مشروع تلك الجماعات الإرهابية، أن نعيد إلى الجهاد الصحيح، الذي هو محصور بجهاد الدفاع، أو بلغة الفقهاء" دفع الصائل"، شرعيته التي دفنتها السياقات السياسية الماضوية، لصالح مشروعات دنيوية لا علاقة لها بسماحة الإسلام، وكونه نزل رحمة للعالمين، ولنتذكر موقف الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز الذي أوقف الفتوحات التوسعية وقال قولته المشهورة: "إن الله بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا". نستطيع تأصيل حقيقة أن الجهاد المأمور به شرعا "دفع الصائل"، من ناحيتين: شرعية وسياسية. من الناحية الشرعية، نجد أن الله تعالى حين أذِن للنبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد، قصره على الجهاد الدفاعي فقط، إذ قال تعالى: "أُذِنَ للذين يقاتَلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير". ولماذا أُذن لهم بالجهاد؟ لأنهم، كما وصفهم القرآن في الآية التي تليها، "أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله". ينقل الطبري عن إمام المفسرين: قتادة السدوسي تفسيره لهذه الآية بقوله: "وهي أول آية نزلت في القتال، فأُذِنَ لهم أن يقاتلوا". ويقول ابن إسحاق في السيرة النبوة، تحت عنوان (نزول الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال) ما نصه: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يُؤذن له في الحرب، ولم تُحل له الدماء، إنما أُمِرَ بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى، والصفح عن الجاهل. وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم من بلادهم، فهم بين مفتون في دينه، ومعذب في أيديهم، وهارب في البلاد. مِنهم من هو بأرض الحبشة، ومِنهم من هو بالمدينة، وفي كل وجه. فكانت أول آية أنزلت في الإذن له في الحرب، وقتال من بغى عليهم، قوله وتعالى:(أذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير)، أي: إني إنما أحللتُ لهم القتال لأنهم ظُلِمُوا". ثم إن الآية التي تلي هذه الآية، ليست فصلا في أن الجهاد آلة لصد العدوان فحسب، بل إنها تؤكد بالإضافة إلى ذلك، أن الجهاد آلة إسلامية لتأمين الحرية الدينية، للمسلمين وغير المسلمين، حيث قال تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، (أي: ولولا الجهاد في سبيل الله، كما في تفسير الإمام الطبري)، لهُدمت صوامع وبيع (كنائس النصارى) وصلوات (كنائس اليهود، ويسمون الكنيسة: صلوتا) ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا". وللجهاد الدفاعي تأييد في أكثر من موضع في القرآن، حيث يقول تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين". فلقد وصف القرآن القتال غير الدفاعي ب(الاعتداء)، والاعتداء من الأعمال التي لا يحبها الله. ويقول تعالى في موضع آخر: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن اعتدوا فلا عدوان إلا على الظالمين"، ولقد فسر الإمام القرطبي في كتابه (الجامع لأحكام القرآن) قوله تعالى: "فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين" بقوله: "وسمى ما يصنع بالظالمين عدواناً، من حيث هو جزاءُ عدوان، إذ الظلم يتضمن العدوان، فسمي جزاء العدوان عدواناً، كقوله: وجزاء سيئة سيئة مثلها". بل إن القرآن يحث النبي صلى الله عليه وسلم على قبول عرض السلم إذا أبداه المعتدون عليه وعلى صحابته، بقوله تعالى: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله". ويفسر ابن كثير هذه الآية بقوله: "وإن جنحوا، أي مالوا للسلم، أي المسالمة والمصالحة والمهادنة، فاجنح لها أي فمل إليها، واقبل منهم ذلك. ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين أجابهم إلى ذلك". وهكذا، فإذا كان المسلمون مأمورين بالجنوح للسلم مع المعتدين، فكيف يؤمرون بالاعتداء على أناس ومجتمعات آمنة مطمئنة لم تعتد عليهم، ولم تنقض عهدا ولا ذمة؟ هذا من الناحية الشرعية المنصوص عليها. أما من حيث السياسة الشرعية، التي هي، كما قال ابن حجر: "سوْس الإمام لرعيته بما فيه صلاحهم، ولو كان مفضولا، ما لم يكن محرما"، وهي مسألة أخذها الشرع باعتباره عند تشريعه لأمور السياسة والاجتماع، فإن تحريم الاعتداء على الآخرين (جهاد الطلب)، يأتي متوافقا مع أبرز مبادئ الأمم المتحدة التي تتفق عليها كافة الأمم، بمن فيهم المسلمون، وهي "تجريم اعتداء أي دولة على دولة أخرى، أو تدخلها في شؤونها". ولا جرم أننا إذا زعمنا أن (جهاد الطلب) مشروع اليوم، فإننا سندفع المسلمين ليكونوا بمنزلة الخارجين على القانون الدولي، ب(تشريع) تدخُّلهم واعتدائهم على الدول والمجتمعات المستقلة. ومن ناحية أخرى، فإننا إذ نقول بشرعية (جهاد الطلب) عند المسلمين، فإننا سنفتح الباب واسعا لأهل الملل والنحل الأخرى لكي ينهلوا من شرائعهم ما يبرر لهم الاعتداء على المسلمين أنفسهم. يكفي أن نتذكر مثلا مصطلحي (الحرب المقدسة)، و(حروب الرب) المقابليْن: المسيحي واليهودي لمصطلح (الجهاد) عند المسلمين. ففي هذا المجال لن يعدم المسيحيون واليهود استصحاب آيات من التوراة والإنجيل تشرع للحرب المقدسة، أو لحروب الرب ضد كل من هو غير يهودي أو غير مسيحي. كما نشرع نحن المسلمين ل(جهاد الطلب) ضد غير المسلمين، وعندها نشرعن لقانون الغاب، اليي يحل فيه لكل قوي أن يستبيح دماء وأموال من هم أقل منه قوة. بالإضافة إلى كل ذلك، فإننا نعلم من أصول الفقه أنه إذا تعارض العام مع الخاص، فيخصص العام بالخاص. وبالتالي، فإذا كنا نعلم أن الإسلام دين الرحمة والسلام والعدل بين البشر كلهم على اختلاف أعراقهم وألوانهم ومللهم ونحلهم، وأن معيار علاقة المسلمين مع العالم كله قائم على هذه الآية "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"، فإن النصوص التي يُفهم منها أنها تشرع لجهاد الطلب بكونها ذات صيغة عامة، يمكن أن تخصص بالنصوص التي تحصر الجهاد بدفع الصائل. هكذا نحارب الإرهاب ومتولّي كبره من الجماعات الإرهابية، التي تنمو اليوم نمو الفطر. نحاربهم فكريا بتأويل مفهوم الجهاد على أنه آلة للدفاع عن البلاد والعباد والحرمات والأموال والأنفس والأعراض، وأن للآخرين المسالمين ما لنا من حرمة لأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وبأن القول بشرعية "جهاد الطلب" إنما هو تشريع لانتهاك ما حُرِّم علينا انتهاكه منهم. أما أن نجاري دعاواهم التي يتكئون عليها بالقول، سواء بلسان الحال أم بلسان المقال: إننا لا نختلف معكم في أن ابتغاء غير المسلمين في عقر دارهم إنما هو الجهاد الشرعي، وأنه ذروة سنام الإسلام، وإنما نختلف معكم في شروطه وضوابط تطبيقه، ومنها أنه مؤجل إلى حين تكون الأمة في منعة وقوة تؤهلها لذلك، فإننا في الواقع لا نفعل شيئا سوى إعطائهم الشرعية لما يقومون من أعمال إرهابية مرعبة، لأن الخلاف معهم حينها سيكون (درجيا) لا يؤثر في اتفاقنا معاً على "شرعية" الأصل!. لمراسلة الكاتب: yabalkheil@alriyadh.net
مشاركة :