المواطنة أساس الاجتماع البشري في الإسلام - يوسف بن عبد العزيز أبا الخيل

  • 5/9/2015
  • 00:00
  • 15
  • 0
  • 0
news-picture

"المواطنة" مفهوم حديث، استدعته الحضارة الغربية المعاصرة من الحضارة اليونانية، وتحديداً: أثينا، والتي كانت تطلقه كوصف معياري على ذلك الشخص الذي يشارك في إدارة (المدينة/الدولة)، ويحصر ولاءه فيها، فلا يدين بالولاء، لا لقبيلة، ولا لطائفة، ولا لمذهب، ولا لعرق، إذ كانت هذه الولاءات محسوبة على الحريات الفردية التي لا يطالها القانون، ولا تؤثر في الفرد من حيث اكتسابه لصفة "المواطن" كامل الحقوق والواجبات. لقد كانت"المواطنة" أساس التعاقد الاجتماعي الذي عده فلاسفة العقد الاجتماعي الغربيون مُنْشِئاً للاجتماع والدولة معاً. ولقد حدث ذلك، كما يفترضون، عندما تحرر الناس من حياة الطبيعة، التي كان فيها الأقوى هو الذي يتمتع بحريته كاملاً على حساب حريات الآخرين، فتعاقدوا على أن يتنازلوا عن حرياتهم المطلقة التي لا تحدها حدود، إلى مجلس أو فرد أو حكومة تضمن لهم حرياتهم كمجموع من الأفراد يشكلون مجتمعاً سياسياً متكاملاً. لكن ثمة تجربة تاريخية لتدشين "المواطنة" كأساس لقيام المجتمع المدني والدولة المدنية، أغفِلتْ تماماً في ظل الانبهار بالتجربة الغربية، وأعني بها تجربة دولة المدينة التي أسسها الرسول صلى الله عليه وسلم وفق عقد اجتماعي سبق به تجربة الغرب الحديث. ومن المحبط أن يكون المسلمون أنفسهم مَنْ تجاهل التجربة النبوية لحساب الخلافات الكلامية حول مسألتي "الخلافة" و "الإمامة"، وذلك عندما تجاهلوا، أو لم يعطوا اهتماماً كافياً لما في مضمون "عقد صحيفة المدينة"، الذي أبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم، بين ساكني المدينة عند قدومه إليها، من إرساء لقيمة "المواطنة"، التي وإن لم يسمها باسمها هكذا، إلا أن مضمون عقد الصحيفة كاف تماماً لأن يبرز صفة، أو قيمة "المواطنة" كأساس للتعاقد آنذاك، وكأساس لتحديد الحقوق والواجبات لكل ساكني المدينة، على اختلاف أديانهم وأعراقهم. وفي الوقت الذي نجد فيه العقد الاجتماعي، كما صيغ في الغرب خلال عصر النهضة، يبدأ أولاً بتفسير قيام المجتمع، ثم قيام الدولة، فكذلك نجد "عقد صحيفة المدينة" يؤسس أولاً لقيام مجتمع مدني على أنقاض الهويات الشخصيات، ثم ثانياً لقيام الدولة المركزية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم. إن من أسباب كسوف شمس الحضارة العربية الإسلامية، وانتشار الطائفية والاحتراب المذهبي والعرقي، غياب مضمون عقد صحيفة المدينة، في جانبه الاجتماعي، كما يقول الجابري، عن مجال المفكر فيه لدى كل الذين خاضوا في مسألتي "الإمامة" و"الخلافة"! لقد كان "عقد صحيفة المدينة" عقداً مزدوجاً، أسس لقيام مجتمع مدني تحكمه علاقة الانتماء إلى المدينة/الدولة(يثرب)، وبنفس الوقت، أسس أيضا لقيام مرجعية سياسية ممثلة في شخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم. هل يلتفت المسلمون اليوم وهم يرزحون تحت نير الطائفية لما في تراثهم من قيم مدنية ديمقراطية رائعة، تؤسس لعلاقة مدنية لا تتماس مع الأديان ولا مع المذاهب ولا مع الأعراق، قبل أن يقضي عليهم أسن هذه الهويات القاتلة؟ ويهمنا في هذا المقال إبراز الجانب الاجتماعي في هذا العقد، والذي غفل عنه، أو أغفله الفقهاء المسلمون، لصالح التنظير لمسألتي "الخلافة" و"الإمامة" وشروطهما، ومَن الأجدر بهما، وصلاحيات كل من الخليفة والإمام! لقد كان "عقد صحيفة المدينة" ثورة على التعصب القبلي والديني، بنفس الوقت الذي دشن فيه للتعددية القبلية والدينية، وأرسى قواعد المجتمع المدني والدولة المدنية، حتى قبل أن تعرفها أوروبا بما ينيف على ألف سنة من السنين. فلقد قرر مبدأ المواطنة، أو المساكنة على أساس مدني بحت، لا دخل للدين ولا للمذهب فيه، إضافة إلى أنه كرس التعددية على عدة مستويات: مستوى طوائف اليهود، ومستوى المهاجرين والأنصار، ومستوى المسلمين واليهود. فنجده يكرس لمبدأ التعددية اليهودية تحت إطار الانتماء للمدينة/الدولة بقوله: "وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني ساعدة ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف. وإن بطانة يهود كأنفسهم". كما نجده يكرس للتعددية الإسلامية بمؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، ضمن مواد ذلك العقد. بنفس الوقت الذي نجده يكرس (مدنية) العلاقة بين السكان، والتعاضد على أساس الدفاع عن المدينة، مع احتفاظ كل ملة أو طائفة بدينها بقوله: "وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم.. وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم. وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن بينهم النصر على من دهم يثرب". ومن المؤسف والمحزن أن ينشغل المسلمون، منذ انجلاء غبار صفين، بالتنظير والتكريس لمسألتي الخلافة والإمامة، والسكوت المطبق عن المضمون الاجتماعي الثوري لعقد صحيفة المدينة، الذي أرسى قواعد المجتمع المدني والدولة المدنية، التي تتعاقد مع رعاياها بموجب عقد اجتماعي مدني يركز على حقوقهم وواجباتهم الاجتماعية والسياسية فيها، مقابل احتفاظ كل منهم بعقيدته، والتي تكفلها له الدولة بصفتها مرجعية سياسية فحسب، كما تمنع غيره من الاعتداء عليه، أو منعه من ممارستها. وتلك لعمري رأس سنام المجتمع المدني والدولة المدنية الحديثة في أنصح وأجلى مظاهرها! فهل يلتفت المسلمون اليوم وهم يرزحون تحت نير الطائفية لما في تراثهم من قيم مدنية ديمقراطية رائعة، تؤسس لعلاقة مدنية لا تتماس مع الأديان ولا مع المذاهب ولا مع الأعراق، قبل أن يقضي عليهم أسن هذه الهويات القاتلة؟. لمراسلة الكاتب: yabalkheil@alriyadh.net

مشاركة :