التطور السريع للحياة أدى إلى زيادة سرعة تغير الأمزجة والإحساس بسيادة اللحظة وسيطرة الحالة العابرة.. والتكنولوجيا الحديثة غيرت موقف الإنسان من الحياة وأحدثت انطباعات مفاجئة وإيقاعًا عصبيًا وإحساسات مفرطة فتضاءل الإحساس بالحياة، فصار الإنسان الحديث نتاج التطور المزدوج واكتفى بدور المشاهد أو الذات المستقبلة.. ذات مرة ومنذ وقت طويل وبعد أن فرغنا من حضور إحدى المحاضرات الثقافية التي كانت تتناول العلاقة ما بين الأخلاق التطبيقية وتطوير الذات وأثناء خروجي من مكان المحاضرة التفت إلي شاب وكان فيما يبدو لي شابًا هادئًا خجولًا تنقصه الثقة بالنفس. وقال لي لقد قرأت عشرات الكتب النفسية والاجتماعية والروحانية إلا أنها لم تحدث تغييرًا في سلوكي. لقد تعاطفت معه تعاطفًا عميقًا وبالذات بعدما أدركت أنه من خلال تحليله وطريقة طرح أسئلته أنه يعاني إخفاقًا في تقديم نفسه بصورة ذكية وفعالة، وأن لديه قناعة سلبية تحد من قدراته وذلك ناتج من خشيته من الوقوع في الخطأ، ما عرضه للإحباط ودفعه إلى قراءة عشرات الكتب في تطوير الذات. ومثل هذا الشاب الكثيرون الذين يحاولون معالجة الموضوعات المعتلة في أذهانهم من خلال كتب تطوير الذات أو دورات وجلسات الوعظ السلوكي والذي يأتي على هيئة رسائل وإرشادات تتطوع بها أحيانًا مواقع التواصل الاجتماعي أو جلسات الإرشاد أو مراكز تدريب تطوير الذات. فنحن خارجون - أو لعلنا لم نخرج بعد - من مرحلة الاستشفاء عن طريق زيارات البيوت الشعبية، أي بعبارة أخرى التداوي بالطرق الشعبية والتي لا تختلف كثيرًا عن علاجات تطوير الشخصية كعلاج جيشتالت والبرمجة العصبية والترابط العصبي والعلاج بالماء أو عن طريق التنفس.. فأنا ليس من عادتي أن أشكك في كل شيء، لقد اعتدت أن أرى الحياة كتابًا أبيض مفتوحًا، فالحياة عندي تجربة تعلم وليست تجربة إثبات، لنتأمل هذه الأفكار مرة أخرى من منظور مختلف نوعًا ما. فإذا ما نظرنا إلى فلسفة تطوير الذات كجزء من تجربة خاصة إلا أنها تحولت إلى نظرية في السلوك.. يطرح اليوم سؤال مركزي عن مدى الإقبال الواسع على قراءة كتب تطوير الذات؟ وهنا يعترضنا سؤال آخر: من أين بدأت فكرة تطوير الذات وإلى أين تتجه؟ في سنوات دراستي العليا في حقل الدراسات الآسيوية في جامعة Seton Hall بالولايات المتحدة الأميركية وقفت عند أول الخيط الذي تبدأ فيه فلسفة تطوير الذات وهو الفلسفة الآسيوية التي هي مزيج من التراث الفلسفي الهندي والصيني والتي أنتجها كبار الفلاسفة أمثال هرشا وشنكارا وناناتك وكونفوسيوش ولودزه واضعي قواعد وأصول الفكر الفلسفي والتي انتقلت إلى الغرب وأعيد إنتاجها في سياق تأملات فلسفية روحانية على أيدي فلاسفة سيكولوجيين واجتماعيين وموسوعيين أمثال: بريان تريسي وأنتوني روبنز وواين دبليو داير وجاي فينلي وأليكس باتاكوس وإكهارت تول وديل كارنيجي وستيفن آر. كوفي. فمثلًا د. جاي فينيلي تعلم تطوير الذات عقب رحلات فلسفية زار فيها الهند وأجزاء من الشرق الأقصى للبحث عما أسماه الحقيقة والحكمة السامية، غير أن هذا اقتضى زمنًا طويلًا في إحالة تلك المقولات الفلسفية الآسيوية إلى صياغات سلوكية وغرسها في منظومة القيم والأخلاق الاجتماعية وتدويلها في إطار العولمة في سياقات سلوكية خارج منظومة القيم والأخلاق التقليدية.. فالتطور السريع للحياة أدى إلى زيادة سرعة تغير الأمزجة والإحساس بسيادة اللحظة وسيطرة الحالة العابرة.. والتكنولوجيا الحديثة غيرت موقف الإنسان من الحياة وأحدثت انطباعات مفاجئة وإيقاعًا عصبيًا وإحساسات مفرطة فتضاءل الإحساس بالحياة، فصار الإنسان الحديث نتاج التطور المزدوج واكتفى بدور المشاهد أو الذات المستقبلة لأنه لا يريد إدراك الحياة وعيًا علميًا. إن إعادة إنتاج التعاليم الفلسفية القديمة بصورة صادقة وصائبة وأمينة لا يمكن أن تنسجم مع الواقع، ذلك أن الواقع له مدلولات مختلفة باختلاف العصور والتعاقب التاريخي، فلكل عصر خصائصه وسماته السلوكية.
مشاركة :