التسامح بين الشجاعة والخوف

  • 7/30/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ننتظر بفارغ الصبر - في هذه الأيام الفضيلة ، أيام العشر من ذي الحجة - ننتظر يوم عرفة، كما ننتظر عيد الأضحى المبارك . ونتطلّع لرؤية حجاج بيت الله الحرام وهم يؤدون مناسكهم بكل طمأنينة وسلام في ظل ما هيأته لهم حكومة المملكة العربية السعودية بقيادة سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان . وإن مما يثلج الصدر مانراه ونقرأه ونشاهده عبر القنوات الإعلامية ، وما تعُجّ به مواقع التواصل الإجتماعي من صور وعبارات التهليل والتكبير لله سبحانه وتعالى ودعوات التسامح والتهاني والتبريكات. ومن هنا جاءت فكرة تسليط الضوء على موضوع التسامح بالذات!!!!! فماهو التسامح؟ مافائدة التسامح؟ وما أهميته ؟ من نسامح ؟!!! ومتى نسامح ؟ ولماذا نسامح ؟ يُعتبر التسامح من أسمى وأنبل أعمال القلب ، وهو من أحب الأعمال في كل وقت ولاسيما في هذه الأيام المباركة. بل أننا مأمورين به لقوله تعالى : وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . ولنا في رسول الله إسوة في ذلك وقد جاء في الحديث : أنَّ رجلًا جاء إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: فقال يا رسولَ اللهِ: "أيُّ الناسِ أحبُّ إلى اللهِ؟ وأيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى اللهِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا، ولأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ، يعني مسجدَ المدينةِ شهرًا، و مَنْ كَفَّ غضبَهُ سترَ اللهُ عَوْرَتَهُ، و مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، ولَوْ شاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللهُ قلبَهُ رَجَاءً يومَ القيامةِ، ومَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حاجَةٍ حتى تتَهَيَّأَ لهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يومَ تَزُولُ الأَقْدَامِ، وإِنَّ سُوءَ الخُلُقِ يُفْسِدُ العَمَلَ، كما يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ". ومن مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم نقف عند هذه القصة ، التي يوردها البخاري رحمه الله عن إبن عباس رضي الله عنه ، يقول إبن عباس : قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، فنزل على بن أخيه الحر بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا، فقال عيينة لابن أخيه : يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه ؟ قال : سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس : فاستأذن لعيينة، فلما دخل قال : يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم بأن يقع به، فقال الحر : يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } . وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله . والعفو والتسامح من الأخلاق الكريمة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق. فها هو عنترة العبسي ، الشاعر الجاهلي يقول : لا يَحمِلُ الحِقدَ مَن تَعلو بِهِ الرُتَبُ وَلا يَنالُ العُلا مَن طَبعُهُ الغَضَبُ. والعفو والتسامح والمغفرة من خُلق الصالحين والأنبياء. عن ابن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ-: قال: "كَأَنِّي أنْظُرُ إلى النّبيِّ صلى الله عليه وسلم، يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فأدْمَوْهُ، وهو يَمْسَحُ الدَّمَ عن وجْهِهِ ويقولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ". وإذا كان الحقد والغل والحسد تورث لأصحابها نكد الدنيا وعذاب الآخرة ، فإن التسامح يورث صاحبه راحة وانشراح في الدنيا وفي الآخرة المغفرة والرحمة ، قال الشافعي رحمه الله: لَمّا عَفَوتُ وَلَم أَحقِد عَلى أَحَدٍ أَرَحتُ نَفسي مِن هَمِّ العَداواتِ وقال آخر: إِذا كنْت لا أعفو عن الذنبِ من أخ وقلت أكافيه فأينَ التفاضلُ ولكنني أغضي جفوني على القَذَى وأصفحُ عما رابني وأجاملُ متى أقطعُ الإِخوانَ في كُلِّ عثرة بقيتُ وحيدا ليس لي من أواصلُ ولكن أداريهِ ، فإِن صحَّ سرَّني وإِن هو أعيا كان عنه التجاهُلُ. إن التسامح من الأعمال التي تسمو بالشخص وتعينه على التقدم والنجاح، وهو أول مراحل التوفيق والصعود في سلّم المجد. ‏ومَنْ يتهيّبْ صعودَ الجِبال يَعِشْ أبدَ الدّهرِ بين الحُفَر ! ولكن من نسامح !!؟؟ إن أولى الناس بالمسامحة هي النفس. الكثير من الناس يعيش في صراح مع نفسه ، في دوامة من اللوم وتأنيب الضمير وهذا يصعب عليه مسامحة الآخرين فمن عجز عن مسامحة نفسه فهو أعجز من أن يسامح غيرها وإن حاول أو أدّعى. ثم مسامحة الماضي ، والرضا بما جرى فيه من خير وشر . ‏إنّ الغنيّ .. الذي يرضَى بعيشِتِه لا مَنْ يظلّ عَلى ما فَاتَ .. مُكْتئِبا. ثم مسامحة الأقربون، وهي والله لاتقل صعوبة عن مسامحة النفس لدى البعض . وإذا كان ولابد من الشكوى ، فاختر بعناية من تشكو إليه، قال بشار ابن برد : ‏ولا بدّ من شَكْوى إلى ذي مُروءةٍ يُواسيكَ .. أو يُسليكَ .. أو يَتَوجّعُ وعلى لسان يعقوب قال تعالى : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله . ويقولون العتاب : صابون القلوب. بعضهم يتحاشى الحديث إلى من حوله خوفاً من جرح مشاعرهم!! بل إن بعضهم حتى لايجرؤ عن التعبير لهم عمّا يكن لهم من مشاعر التقدير والامتنان ، ولا عتب عليهم إذا ما وصفوه بالبارد. وإذا ما اغضبه شيء أو ضايقه أمر انكفأ على نفسه منكسراً وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هرع إلى امنّا خديجة دثروني دثروني ، زملوني ، زملوني . وفي الغار قال لصاحبه : لاتحزن. حاجة الإنسان للتعبير عن مشاعره ومشاركتها من حوله أكثر من حاجته للغذاء. فإذا ما جرحك شخص أو ارتباك أمر فلا بأس من التعبير عن مشاعرك لمن تثق في رجاحة عقله وحسن رأيه . ومن المشاهدات العجيبة والأحداث الغريبة أن أغلب مشاكلنا ليس فيما تحدثنا عنه بل فيما سكتنا عنه ، حتى نصل لمرحلة الانفجار وما يتبعها من خصام وربما شجار ثم قطيعة . وإن قطيعة الرحم لمن أكبر المصائب ، ولا تقل عنها قطيعة الأصدقاء والزملاء ، وكم من زميل قاطع زميله بعد سنوات من الزمالة والأخوة، بل أن بعضهم يخرج من عمله متقاعداً ورأس ماله خصومة أو قطيعة. وبعد أن يموت أحدهم ترى رسائل الوداع وذكر مناقبه والإشادة بأخلاقه وحسن تعامله تنهال من كل حدبٍ وصوب ، وللأسف أن أغلبها تأتي ممن قاطعوه في حياته. وتتزين صور العرض بصورته، وتُرسل الآيات والأحاديث صدقة عنه. التسامح ليس عبارات نكتبها ، ولا وسائط نبعث بها للجميع. التسامح سلوك وأفعال نقدمها لله تقرّباً ولخلقه تكرّماً. التسامح يعني الشجاعة ، أما الخائف والجبان فإنه لايسامح أبداً ، لأنه يرى في التسامح عاراً ومذلة. ‏مراتبُ المَجْدِ .. لا يَرْقَى لها أبداً مَنْ همّه الناس، ما قالوا وما فعلوا وأجملُ الناس أعمى عن مساوئهم وقلبُه الحُرّ .. بالعلياءِ مُنشغلُ .!

مشاركة :