شهدت الجزيرة العربية، كما هو حال بقية البلدان العربية عامة، في مطلع القرن الحادي والعشرين تحولات كبيرة، على إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى ونتائجها المأساوية على واقع البلدان العربية.. فما أن حطت الحرب أوزارها إلا وفوجئ الكثير من العرب الذين علقوا آمالاً على وعود من الدول الفائزة في الحرب بأنهم سيمنحونهم استقلالهم على إثر هزيمة الدولة العثمانية التي كانت تبسط نفوذها على بلاد الشام والعراق واليمن وعسير والحجاز، وهي المناطق التي ظلت في منأى من الوقوع تحت النفوذ البريطاني مثلما كان الحال لجنوب اليمن وعمان وساحل الخليج العربي. انساق بعض الحكام العرب في الجزيرة العربية -مثل شريف مكة والسيد الإدريسي في منطقة جازان وتهامة- وراء الوعود البريطانية بأنها سترشح الأول ملكاً للعرب والثاني سيداً على منطقة جازان وتهامة اليمن وعسير، وهناك أمير حائل ابن الرشيد الذي رمى بكل ثقله في أحضان الدولة العثمانية على وعود بأنه سيكون أميراً على كل نجد. وكثير من المثقفين العرب والضباط العرب في الجيش العثماني وأكثرهم من بلاد الشام سوريا ولبنان وفلسطين والعراق وثقوا في كل من وعود بريطانيا وفرنسا، وكانوا لسان ما يسمى بالثورة العربية الكبرى على الدولة العثمانية، وحطب حرب تلك الثورة التي كانت مجرد خدعة جُرَّ إليها العرب بأمل أن يتحرروا من النفوذ العثماني ليجدوا أنفسهم يعلمون أو لا يعلمون تحت النفوذين البريطاني والفرنسي وضحية لاتفاق سايكس بيكو. وكان الزعيم العربي الوحيد الذي لم يقع في لعبة المحاور أو كان ينتظر وعداً من أي قوة أن تساعده ليكون أميراً على نجد هو الملك عبدالعزيز؛ الذي كان يحمل مشروعاً وهو توحيد كل بلدان نجد بل ما هو أكبر من ذلك مرتكزاً على إرث تاريخي يعود إلى أكثر من مئتي سنة، حينما وحّد أسلافه الجزيرة العربية لأول مرة منذ انفراط وحدتها بانتقال مركز الخلافة منها في منتصف القرن الهجري الأول إلى دمشق ثم بغداد وأخيراً إلى إستانبول. كان عبدالعزيز يحمل مشروعه منذ اليوم الأول لاستعادة الرياض عاصمة ملك أجداده عام 1902م ومنذ ذلك الانتصار الذي لم يكن إلا الخطوة الأولى في تحقيق الهدف الأسمى وهو إعادة الجزيرة العربية إلى وحدتها، وتعويض شعبها من الضياع، والاقتتال فيما بينهم على أتفه الأسباب من أجل العيش الذي افتقدوا معناه في ظل تجاهل دول الخلافة المتعاقبة، وآخرها خلافة بني عثمان. كانت الدول الكبرى صاحبة النفوذ في المنطقة، والقوى المحلية التي نشأت في ظل وحماية تلك الدول ذات المصالح ترقب بعين الحذر التحركات السريعة، والانتصارات المبهرة التي يحققها الملك عبدالعزيز، بدءاً بإتمام سيطرته على قلب نجد وانصياع القبائل والأقاليم لطاعته. كان أمراً مزعجاً بل مخيفاً للقوى المحلية مثل آل الرشيد في حائل، وأشراف مكة في الحجاز والوجود العثماني المتهالك في الأحساء. وهم يتابعون انتصارات عبدالعزيز. كان الملك عبدالعزيز من الحصافة والذكاء السياسي بمكان لا يريد الاحتكاك مع الدول ذات النفوذ في المنطقة مثل الدولة العثمانية التي كان لها نفوذ في شرق البلاد، حيث الأحساء، وفي غربها حيث مكة والمدينة، وكذلك بريطانيا ذات النفوذ في منطقة الخليج من عُمان جنوباً إلى الكويت شمالاً، كان يؤجل مواجهته مع هذه القوى، ويتحاشى الاحتكاك معها بشكل مباشر، ووجه جهده لمواجهة القوى المحلية المعتمدة في بقائها على مساندة الدول الكبرى، خاصة الدولة العثمانية المساندة لخصومه آل الرشيد وأشراف مكة، وكان يدرك أن العثمانيين كانوا من الضعف بمكان فلا يستطيعون مساندة من كانوا صنائع لهم، ولكن مع ذلك ما كان يريد إغضاب الدولة العثمانية الذي كان يدرك أنها أقرب إلى الزوال حتى قبل دخولها الحرب العالمية الأولى، وأن حلفاءها هم إلى الزوال بزوالها. كانت المواجهة بشكل مباشر مع الدولة العثمانية حينما استعاد الأحساء عام 1913م من الاحتلال العثماني لعدة اعتبارات: أولاً: كون الأحساء جزءاً مهماً من أملاك الدولتين السعودية الأولى والثانية استولت عليه الدولة العثمانية بالقوة عام 1872م. ثانياً: كون سواحل الأحساء تمثل المنافذ البحرية لنجد. ثالثاً: وهو الأهم دعوة سكان الأحساء الملك عبدالعزيز لتخليصهم من الحكم العثماني الضعيف الذي لا يؤمن لهم الأمن والاستقرار، وإن لم يفعل فإنهم سيضطرون لطلب دخولهم تحت الحماية البريطانية مثلما هو الحال لبقية مناطق الخليج. اضطرت الدولة العثمانية في الأخير تحت ضغط عدم قدرتها على استعادة الأحساء بالقوة إلى توقيع اتفاقية مصالحة مع الملك عبدالعزيز معترفة بنفوذه على نجد بما فيه منطقة الأحساء. وبهذا أصبح الملك عبدالعزيز جاراً للإنجليز ممثلاً في محمياتها في الخليج، وأصبحت بريطانيا مضطرة للتعامل معه بدلاً من الدولة العثمانية التي لم يعد لها نفوذ في الخليج، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى انشغل العالم بالحرب، الدول الكبرى ومن تحالف معها من القوى المحلية مثل آل رشيد تحالفوا مع العثمانيين، والأشراف في الحجاز تحالفوا مع بريطانيا، ومثلهم السيد الإدريسي تحالف أيضاً مع الانجليز حيث وعدت بريطانيا الأول أن يكون ملكاً على العرب، والثاني سيداً لسواحل عسير وتهامة اليمن بكل موانيها، وهي وعود سرعان ما تخلت عنها بعد انتهاء الحرب وهي لم تكن جادة منذ البداية. لم يدخل الملك عبدالعزيز ضمن هذه التحالفات، واستطاع أن يحيد موقفه من الدولة العثمانية وكذلك مع بريطانيا، وبأنه لن يكون عوناً لأي منهما ضد الطرف الآخر، أو مع أي طرف آخر ضد أي منهما. مكنه هذا الموقف الرائع من المضي قدماً في تحقيق مشروعه الوحدوي. فما أن حطت الحرب أوزارها إلا وهو يسيطر على معظم أنحاء الجزيرة العربية، وتنكشف نوايا الدول الكبرى، وتتخلى عن وعودها لمن تحالفوا معها وينكشف ضعف القوى المحلية، ولم يعد باستطاعتها الوقوف في وجه الملك عبدالعزيز الذي يملك كل مقومات إقامة دولة تضم كل إمارات الجزيرة العربية المتناثرة والضعيفة، وكان آخرها مملكة الحجاز التي سقطت تحت حكم الملك عبدالعزيز سنة 1923م. واكتفت بريطانيا بإرضاء أبناء الشريف الحسين فيصل ملكاً على العراق، وعبدالله أميراً على شرق الأردن، وتخلت عن الإدريسي الذي دخل في بداية الأمر تحت حماية الملك عبدالعزيز عام 1918م، ثم تم ضم جازان نهائياً إلى حكم الملك عبدالعزيز عام 1932م. أمين الريحاني في بلاد العرب بعد هذه المقدمة نريد أن ندخل في صلب الموضوع الذي من أجله كتبت هذه المقدمة؛ وهو مكانة ودور أمين الريحاني من أحدات هذه الفترة، وبداية علاقته بالملك عبدالعزيز. ما قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى كان الريحاني القومي العربي والمثقف العربي اللبناني الأصل والأمريكي الجنسية، والمهموم بقضايا أمته العربية، وهو في مغتربه في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، يتابع بكل شغف أحداث وأخبار العالم العربي، وتطورات الأحداث بعد انهيار الدولة العثمانية، وإحلال النفوذ الاستعماري بديلاً عنها. ولكنه لم يكتفِ بمتابعة الأحداث وتقصي الأخبار عن بُعد، بل قرر أن يأتي بنفسه ليقوم بأعظم رحلة يقوم بها رحالة عربي لتشمل كل أنحاء البلاد العربية بما فيها مناطق داخل الجزيرة العربية لم تطأها رِجل رحالة عربي قبله، مستعيناً في هذه الرحلة بثقافة عربية واسعة، وشعور قومي حي، وإرادة وصبر وتحمل جميع أنواع المشاق، شملت هذه الرحلة بلاد الشام والعراق ومنطقة الخليج العربي، والسواحل الجنوبية للجزيرة العربية، متوغلاً في أعماق بلاد اليمن مملكة الإمام يحيى حميد الدين المنغلقة، نزولاً إلى سواحل تهامة على سواحل البحر الأحمر، وصولاً إلى جازان وعاصمة الإدريسي صبيا، ثم وصولاً إلى جدة عاصمة الحجاز التجارية، ومقر شريف مكة الشريف الحسين بن علي. خرج من هذه الرحلة بسفر عظيم، أعتقد أنه من الأعمال الرائدة والخالدة، والمعين الذي لا يستغني أي مؤرخ أو مثقف من الرجوع إليه، وأطلق عليه اسم «ملوك العرب». تحدث بالتفصيل عن كل ملك أو أمير وعن بلاده وعن قدراته، وعن مستقبل البلدان التي يحكمها هؤلاء الملوك والأمراء، لا أريد أن أدخل في التفاصيل حتى لا أستنزف كل وقت القارئ، ولكن أنصح كل من لم يقرأ «ملوك العرب» أن يبحث عنه، وقد طبع في عدد من الطبعات، ففيه من المتعة والفائدة وجمال اللغة وسلاسة الأسلوب ما يبهر. وأنا أكتب هذه المقدمة في ليلة من ليالي رمضان المبارك، وفي أيام حجر كورونا، وأدعو كل قارئ وفرت له كورونا الوقت الكافي، ولدى القراء وقت كافٍ لقراءة كتاب ممتع مثل «ملوك العرب»، وهو جدير بالقراءة حتى في غير أيام الحجر الذي نأمل ألا تطول. الريحاني والملك عبدالعزيز من البصرة تقدّم أمين الريحاني برسالة إلى الملك عبدالعزيز، يطلب فيها القيام بزيارته وزيارة بلاده، وذلك في عام 1922م. وافق الملك عبدالعزيز، على أن يكون وصوله عن طريق البحرين متزامناً مع وجوده -أي الملك عبدالعزيز- في الأحساء، وعمد مندوبه في البحرين السيد القصيبي إلى ترتيب سفره، هو ومرافقه السيد هاشم الرفاعي من البحرين عن طريق ميناء العقير، وكان الملك -حينذاك- في الرياض، وسيقدم إلى الأحساء لمقابلة السيد برسي كوكس المندوب السامي البريطاني في الخليج في لقاء رسمي الغرض منه ترسيم الحدود مع كل من الكويت والعراق. قابل السيد الريحاني الملك عبدالعزيز في الأحساء قبيل ذهاب الملك إلى العقير، حيث سيكون اللقاء مع المندوب السامي البريطاني والوفد المرافق له المشكل من عدد من الشخصيات العراقية، ومعهم الشيخ ابن هذال. كان الملك عبدالعزيز أثناء الطريق إلى العقير يتوقف لتجاذب الحديث مع الريحاني حول بعض الرسائل التي كانت تصله من بيرس كوكس، ومنها رسالة فيها إشارة إلى وجود ابن هذال ضمن الوفد المرافق للمندوب السامي، يبدو أن الملك عبدالعزيز انزعج من وجود ابن هذال؛ لأنه لا يريد أن يستغل أو يقحم موضوع القبائل وشيخ في مكانة ابن هذال في موضوع يريد الملك أن يبين أن كل القبائل من رعاياه، ومراعاة هذا في جدول الأعمال المعد. من الملاحظ أن الملك عبدالعزيز ارتاح كثيراً من اللحظة الأولى لمقابلة الريحاني، ووجد فيه من يفضي إليه ببعض ما يريد الحديث عنه في كثير من المواضيع، لدرجة أنه أشركه إلى جانبه في بعض المواضيع كعضو في المحادثات، وقام بدور كبير في الترجمة وصياغة المحاضر، من هنا ازداد إعجاب كل منهما بالآخر، وفي كل يوم يزداد الريحاني محبة للملك عبدالعزيز، ووجد نفسه أمام شخصية مختلفة لم يجد لها مثيلاً فيمن قابلهم من الأمراء والملوك الذين قابلهم من قبل. ما زاد الريحاني انبهاراً بالملك عبدالعزيز تطلعاته إلى تكوين مملكة قوية وموحَّدة، ووجد فيه مواصفات القائد القادر على ذلك، ومن غير أن يراهن على تأييد أي قوة سوى قوته وقوة شعبه مع قوة الذكاء والحنكة بعدم القيام بأي عمل عدائي مع القوى الكبرى المحيطة به، وأن يتعامل معها بكل كياسة دبلوماسية لتحقيق مشروع وحدة بلاده. تولد لدى الريحاني رغبة في كتابة تاريخ المعجزة التي يصنعها الملك عبدالعزيز. وعرض هذا الأمر على الملك وقال «ما يخالف» وطلب منه أن يرافقه إلى الرياض أثناء عودته، وافق الريحاني الذي وجد في هذا العرض ضالته. وصف الريحاني رحلته من العقير إلى الرياض على ظهر جمل برفقة العديد من الرجال وصفاً رائعاً. عند مدخل مدينة الرياض وهنا تبدأ قصة العمل الذي نحن بصدد تقديمه للقارئ الكريم؛ وهو ما لم يقم الريحاني أو غيره بترجمته إلى اللغة العربية ضمن عمليه العظيمين؛ «ملوك العرب»، و»تاريخ نجد الحديث»، والأخير كتبه الريحاني باللغة الإنجليزية تحت عنوان [the maker of modern Arabia]، وتم ترجمته عدا فصلين؛ وهما الفصل الثاني عشر تحت عنوان [الرياض]، والفصل الثالث عشر تحت عنوان [في القصر]، وقمنا في دار بلاد العرب الناشر لهذا العمل بترجمة هذين الفصلين، لما رأينا فيهما من أهمية لغزارة ووصف ما ورد فيهما، ولطرافة بعض ما تضمناه، وما طرحه الريحاني من آراء أو وصف لبعض الحالات ربما يجد فيها البعض شيئاً من الغرابة، ولكنه وصف لما شاهده وما رصده بعين الرحالة اللاقطة لكل شيء، ففي الفصل الأول الوارد في هذا العمل، يصف أول انطباع له عند دخوله مدينة الرياض، وفي الطريق إلى الساحة التي يطل عليها قصر الملك، واصطفاف الرجال والنساء على جلسات معدة للقعود على طرفي مدخل القصر، وكأنهم نظارة لمشاهدة عرض مسرحي، بينما كما يقول، إنما هم في حالة استعداد لتناول وجبة العشاء على مائدة الملك، حيث قدِّر عدد من يتناول الغداء والعشاء في القصر ما بين 200 و500 شخص مرتين في اليوم، وأشار إلى أن الكثير منهم يصطحب معه تحت عباءته إناء لأخذ عشاء أو غداء لأسرته بعد أن يفرغ هو من تناول وجبته. وصف الريحاني ممرات المدينة، وقال إنها جيدة ونظيفة، وأنها ليست بنظافة شوارع صنعاء، ولا ببشاعة واتساخ ممرات كربلاء. لا أريد أن أسهب في توضيح أمور ذكرها المؤلف، وسيجدها القارئ مفصلة فيما كتب وما قمنا بترجمته. في الفصل الثاني من العمل الذي نقدمه وهو بعنوان «في القصر»، في هذا الفصل يخصص الريحاني حديثه كاملاً عن الحياة السياسية والاجتماعية والسكانية والإدارية وكذلك الاقتصادية لمدينة الرياض، وإدارة القصر، وتفاصيل ما شاهده فيه، حيث عاش في أحد أجنحته مدة تزيد على الشهر، وفي أشد الشهور برداً في مدينة الرياض شهر يناير، وطريقة معيشته في القصر ونوع ما يتناوله من طعام، ويسهب في الحديث عن شخصية الملك عبدالعزيز وسماته القيادية، كرمه، لطفه، علاقاته الشخصية مع رجاله وموظفيه، الجوانب الإنسانية الشفافة في شخصية الملك، يسجل الريحاني جانباً من جوانب الإنسانية التي يتحلى بها الملك عبدالعزيز -رحمه الله- يقول: «كنت أرزح تحت وطأة الملاريا الكريهة التي غطتني وغمرتني بحمى حبها». وقد حظر السلطان عبدالعزيز أخونا في الإنسانية لزيارتي وهو يحمل معه آخر الاختراعات الطبية ألا وهو مقياس حرارة يسجل كلاً من درجة حرارة الطقس ودرجة حرارة جسم الإنسان في إحدى يديه، وزجاجة من عصير الليمون في اليد الأخرى، وكان وجهه كطلوع الشمس في الغرفة، وكلماته بمثابة قطرات من مياه الينابيع الصافية. قال عبدالعزيز «هذا سوف يوضح لك -امسك به في يدك- عدد الدرجات التي تجاوزت بها درجة الحرارة العادية»، ثم أردف قائلاً وهو ممسك بالقارورة: وهذا سوف يقوم بخفض وتبريد درجة حرارتك الداخلية، هل سبق لك أن ذقت طعم (الكينين) قبل ذلك؟ حفظك الله ووقاك من كل شر كل هذا (الكينين) ثلاث مرات في اليوم. يقول الريحاني «حفظك الله يا عزيزي عبدالعزيز وطبيبي وممرضي الجيد، فلن آكل شيئاً غيره». كما وصف لنا بعض الشخصيات البارزة في إدارة القصر، وإدارة الشئون المالية، خاصة شخصية شلهوب؛ وهو الشخصية المقربة جداً من الملك، ودقته في طريقة إدارة المال، والإشراف على ضيوف الملك من مشايخ القبائل والمحاربين، ووصف مستودعات القصر وما تحتوي عليه من السلاح ومن مؤن غذائية وأنواعها، تكفي لفترة طويلة مع كثافة زوار القصر من أهل الرياض وخارجه، وإشراف شلهوب على إعداد موائد الملك وضيوفه وبعض المناسبات التي يحضرها أكثر من 5000 شخص. ويختم شلهوب حديثه إلى الريحاني وهو يعد لوليمة حضرها أكثر من 5000 شخص من كل أعيان مدينة الرياض من أمراء وغيرهم. بقوله وهو يعلم أن الريحاني يعد كتابه عن الملك عبدالعزيز وتكوين المملكة. يقول شلهوب متحدثاً إلى الريحاني وهو يراقب المشهد من شرفة جناحه: لقد شهدت كل شيء بعينيك الاثنين، والآن سجل في كتابك؛ لأن ما أقوله لك هو عين الحقيقة «اكتب حفظك الله، إن كل ملك في هذا العالم يدعمه شعبه، ولكن أهل نجد يدعمهم ملكهم». لقد ظلت علاقة الريحاني بالملك عبدالعزيز قوية طوال حياة الريحاني، ولمحبته للملك عبدالعزيز، ولتميز مشروعه العربي في توحيد أكبر دولة عربية وحَّدها الملك ورجاله بجهودهم الذاتية، وبأمانهم أن في وحدة الجزيرة العربية تحت قيادة الملك عبدالعزيز قوة للعرب وللمسلمين، وأخذ الريحاني يكتب المقالات في الصحف الأمريكية ويلقي المحاضرات في الجامعات للتعريف بالدور المذهل الذي يقوم به الملك عبدالعزيز من توفير الأمن والاستقرار في منطقة شاسعة من بلاد العرب، كانت وعلى مدى قرون مسرحاً للفتن والاقتتال القبلي، فأصبحت بعظمة هذا الرجل واحة من واحات الأمن والاستقرار، كان لهذا أثره على استقرار المناطق والبلدان المحيطة بها. وظل الريحاني على محبته وإخلاصه في علاقة ربطته بالملك عبدالعزيز حتى حين وفاته في قريته الفريكة في جبل لبنان عام 1940، وأقامت له أسرته متحفاً باسمه «متحف أمين الريحاني» وأقامت بلدية منطقته تمثالاً يزين مدخل البلدة، ومما يزين متحف الريحاني تلك القطع التي أهداها له الملك عبدالعزيز؛ ومن أبرزها سيف من سيوف آل سعود النادرة، وقطع من الزل الفاخر، إضافة إلى مسودات كتبه التي كتبها عن تاريخ نجد وملوك العرب، ورسائله مع الملك عبدالعزيز، ويشرف على المتحف ابن شقيقه الدكتور أمين ألبرت الريحاني الأكاديمي البارز في التاريخ الحديث بإحدى الجامعات اللبنانية، وقد أصدر كتاباً ضمّنه الرسائل المتبادلة بين عمّه أمين الريحاني وبين الملك عبدالعزيز، منعت الرقابة لدينا دخوله المملكة لبعض من الوقت دونما سبب واضح للمنع. وقد كانت لي فرصة زيارة متحف الريحاني قبل فترة وجيزة، وقابلت الدكتور أمين ألبرت الريحاني القائم على هذا المتحف، رأيت العناية الفائقة التي يوليها لهذا المتحف، وبشكل خاص ما يتعلق بعلاقة عمّه بالملك عبدالعزيز. إن أمين الريحاني جدير بأن تعقد عنه مؤتمرات وندوات في بلادنا، وفي بلده الأصل لبنان، للتعريف بعمق علاقته الصادقة بهذه البلاد، وبمؤسسها العظيم. وسمة الكبار -ونحن بحمد الله كبار- الوفاء لكل من أسدى لبلادنا من خدمات سجَّلها التاريخ، وفي الظروف التي لم يكن بها ما يغري، وذلك قبل اكتشاف البترول، ويأتي الريحاني في أول القائمة، وبالمناسبة يصدر العمل الذي أصبح معدًّا للإصدار متزامناً مع حلول الذكرى الثمانين لوفاة الريحاني.
مشاركة :