أحمد رامي .. شاعر الحب الدافئ "1 - 2"

  • 7/18/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بقلم - جهاد فاضل: لم يكن أحمد رامي من الشعراء العرب الكبار في القرن العشرين، ولكن لا شك أن هؤلاء الشعراء الكبار يحسدونه على المكانة التي تبوأها في عالم الإعلام والغناء. فقد غنّى من نظمه مطربو مصر الكبار مثل أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب في حين لم يلتفت هؤلاء المطربون لا إلى الجواهري وبدوي الجبل وهذا الرعيل من شعراء الدرجة الأولى إلا فيما ندر، في حين أقبل المطربون، كباراً وصغاراً، على شعره إلى درجة عدم القدرة على تلبية جميع الطلبات، فوقف المطربون في الصف ليأتي دورهم في قصيدة جديدة لعلّهم يحظون بها من شاعر الشباب رامي، وشاعر الشباب هو اللقب الذي غلب على رامي رغم أن ألقاباً أخرى كثيرة طاردته، إلا أنه ظل شاعر الشباب رغم بلوغه الثمانين، ورغم أن الشباب وجدوا مع الوقت شعراء آخرين عبّروا عن أشواقهم ومشاعرهم، وها هو مؤلف هذا الكتاب الذي يلم بسيرة رامي يُطلق عليه لقباً جديداً هو شاعر الحب الدافئ.. ويبدو أن شاعر الشباب أُطلق عليه في البداية لأنه كان ينشر شعره في جريدة الشباب فيكتب صاحب الجريدة مقدماً إياه إلى القراء: جاءنا من شاعر الشباب أحمد رامي.. ولصق به اللقب وغلب على أي لقب آخر يخلعه عليه صحفي أو ناقد.. وقد استنتج باحثوه أن القصد بهذا اللقب هو فيض المشاعر في شعره والاقتراب من نفوس الشباب. وقد ظل شاعر الشباب شاعراً شاباً حتى ضرب في الشيخوخة وجاوز الثمانين واحتاج سمعه إلى ترجمان، ويبدو أن هذا الخلط الذي وقع فيه الناس لم يكن كلّه خطأ، فقد جاء شعر رامي بعيداً بشكل لافت عن تلك المناحي التي اختارها معظم شعرائنا، فرامي لم يُعرف إلا متغزلاً أو واصفاً، ولم يقل الشعر إلا عن عاطفة تجيش في قلبه فتحرك لسانه، لذلك كان شعره أقرب إلى نفوس الشباب الفياض العاطفة، فأطلقوا عليه شاعر الشباب لأنه يتحدث إليهم بعاطفتهم، ويسرد لهم الأماني التي تجول في خواطرهم، والواقع أنه خصص طاقته الشعرية لمجال العاطفة والوجدان وشعر الحب، بينما ضرب غيره في شعاب السياسة ودهاليز الفلسفة والتأمل وغيرها من ضروب الشعر. ولكن هل كان للشباب الحصة الأوفر في شعره للشباب أم لأم كلثوم التي ارتبط اسمه وشعره بها حتى بات لقبه عند الجمهور شاعر أم كلثوم رغم أن رامي كتب الكثير لسواها من المطربين وبخاصة لمحمد عبدالوهاب الذي لا يقل ما كتبه رامي له عما كتبه لأم كلثوم. فهو في الواقع شاعر أم كلثوم كما هو شاعر عبدالوهاب. ويبدو أنه بالإضافة إلى ما كتبه لأم كلثوم من شعر، فقد انعقدت بينه وبينها حكاية حب من طراز فريد وغريب، فرامي كثيراً ما عبّر في النصوص التي كتبها لها عن مشاعره الخاصة تجاهها، منطلقاً من كون حكايته معها حكاية عاطفية لا مجرد علاقة شاعر بمطربة يكتب لها قصائد لتغنيها، كانا نوعاً من قصة مجنون ليل، ولكن دون أن يكون المجنون هنا مجنوناً على طراز المجنون القديم، ودون أن تكون أم كلثوم هي بالضبط ليلى القديمة، ولكن الاثنين كانا سعيدين بهذه الحكاية ولكل منهما غاياته المضمرة الخاصة، دون أن ينفي أحد وجود كمية لا بأس من الرومانسية فيها، وبخاصة عند الشاعر. أما أم كلثوم فقد سعدت بهذا العاشق الذي يتزود من علاقته العاطفية بها بفيض من المشاعر يوظفها في شعره الذي يقدمه لها لتغنّيه. وكان هو يعرف ما يمكن وما لا يمكن. فرامي يمكن أن يكون طمع أو حلم بأم كلثوم، ولكنه علم أن هناك حدوداً لا يمكنه تجاوزها. فأم كلثوم تحبه كشاعر من بطانتها، لا كعاشق يحبها وتحبه. وعلى العموم كانت قصة رامي وأم كلثوم من أجمل القصص الرومانسي في حياة كل منهما وفي تاريخ الفن والغناء والشعر العربي المعاصر، ولعلها قصة الحب الكبرى في حياة رامي التي أوهمته وألهمته في آن، وأنقذته من عالم الخمول الشعري الذي كان يمكن أن يتردّى إليه لو لم تغنِّ من شعره أغانٍ عددها بالمئات بدأت في عام 1927 بقصيدته. الصبُّ تفضحه عيونه وتنم عن وجدٍ شؤونه إنّا تكاتمنا الهوى والشوق أقتله دفينه قال رامي الكثير من الشعر لأم كلثوم، كما قال الكثير عن الشعر فيها، البعض يرى أنها كانت علاقة أقرب إلى الأساطير منها إلى الواقع نظراً لمتانتها ولاستمراريتها سنوات طويلة انتهت برحيل كوكب الشرق، ورامي يصف هذه العلاقة بأنها كانت شيئاً أكثر من الحب وأكبر من العواطف.. وقد روى مرة كيف بدأت علاقته بها: سمعتُ عنها قبل أن التقي بها، كنت لا أزال في بعثتي الدراسية بباريس عندما تلقيت رسالة من صديق لي يقول فيها:ظهرت مطربة جديدة في القاهرة لها صوت عظيم، ومن بين ما تغنيه قصيدة من تأليفك.. وعجبت كيف وصلت أشعاري إلى المطربة الناشئة، وبعد وصولي إلى القاهرة بساعات، ذهبت مع أصدقائي إلى حديقة الأزبكية حيث كانت تغني أم كلثوم، وما كادت تظهر حتى ذهبت إليها لمصافحتها وقلت لها: إنني غريب وأريد أن أسمع قصيدتي، فردّت في الحال: أهلاً سي رامي.. وغنّت القصيدة وكان مطلعها الصب تفضحه عيونه. ومن بعدها بدأت رحلتي الطويلة معها التي استمرت خمسين سنة كاملة. لم تكن أم كلثوم أول من دخل عالم رامي العاطفي. فعندما نقرأ دواوينه الثلاثة الأولى نجده يعاني شعوراً ممضاً بالإحباط في تجربة حب عنيفة تخلت عنه فيها حبيبته، وذهبت بقلبه ولم تعد. لذلك نجده في قصيدته الأولى لأم كلثوم (في سبتمبر 1924) يستشفع بها أن تغني شعره على حبيبته لعلها تعود إلى سابق عهدها معه، وفي هذه القصيدة يقول رامي: صوتك هاج الشعر في مسمعي وأرسل المكنون من أدمعي سمعته فانساب في خاطري للشعر عين ثرّة المدمع ودبّ في نفسي دبيب المنى والبرء في اليائس والموجعِ وبعد هذا التعارف يتحول قلب رامي إلى أم كلثوم ليعلن لها عن حبه الصامت الخافت، وقد أحسّ قلبها بهذا الحب الذي خرج منه كالتيار الجارف لا تسدّه الحواجز ولا تمنعه العقبات، وقد وطّدت أم كلثوم علاقتها برامي، لما وجدت فيه من نبع أصيل من منابع الفن، وتكثر لقاءاتهما بعد ذلك، وبدا رامي أكثر تعلقاً بأم كلثوم، وأشدّ وفاءً لها وإقبالاً عليها. كانت أم كلثوم شديدة الاعتداد بنفسها، شامخة بذاتها كما كانت شامخة بفنها. ولذلك فإنها لم تُنل رامي من نفسها منالاً، وقد كان ذلك حسناً، إذ إن هذا الحرمان كان فاعلاً في استقطار ما كان في وجدان رامي من شعر. ولم يدخل رامي اليقين أنها خالصة له كما هو خالص لها، وكان يعرف، كما يقول عنها، ميل نفسها أن تكون هوى الدنيا ومبعث الحنين. فهي تقرّب إليها أناساً حتى يتوازنوا مع رامي أو يسبقوه، وتخلو إليه فيحسّ مكانته منها، وتأكله الظنون فينصحها ألا تنخدع بكلمات هؤلاء ونظراتهم، ونلمس ذلك القلق المرير في قصائد متتالية: قد أحاطت بك العيون فما أستطيع ألقى مكان عيني منكِ وجرت حولك الأحاديث حتى كدتُ أنسى الذي أحدّث عنكِ وأطافت بك القلوب وقلبي ضاع في غمرها ولمّا يضعك خبريني أيّ القلوب تناجين فقد همتُ في غيابة شكِ أي نفس سبرت غور هواها وتحديت سترها بالهتك فتنغمت كيف تنيمي أساها نومة الطفل بعد طول التشكي وتبادلتما الهوى بعيونٍ تتلاقى بالغيب خوف التحكي هي نفسي؟ قولي أقري شجاها وأبيني عن سرّ نفسك تلكِ أم نفوس حسبت فيها وفاءً وتوهمت حبها دون شركِ قدك وهما، لقد تغلغلتِ فيها وتبينتِ ميلها للتركِ ونسمع تسلل الشك ودبيب الهواجس في نفسه: أخاف عليك من نجوى العيونِ وأخشى أنّة القلب الحزينِ وأشفق أن تخادعك المعاني بأعين ناظريك فتخدعيني وأعلم ميل نفسك أن تكوني هوى الدنيا ومنبعث الحنينِ فأخشى قولة العذّال مالت لغيرك وانتهى كذب الظنونِ ! ويضيف رامي في نفس القصيدة: وقفت على هواك مطار فكري ومسرى خاطري وهوى فنوني ووحدت الــمعــــاني فيك حتى رأيت الكون خلواً من شــجوني فهل يرضيك مــــا ألقى فأرضى نصيبي فيك مـــــن ذل وهون وأطلب في الشقاء عزاء نفسي بما قدمت من عـــــطف ولـين أم الـــظن المريب أضل رشــدي وأرسل ليله يغــــشى يقيني فإذا استجمع شجاعته وسألها سؤالاً محدداً: هل تحبه؟ أجابته إجابة مائعة لزجة: إنني لا أشيم في قلبك السادر نورا ولا أحسّ يقينا كلنا سيئ الظنون وما أحسبُ إلا أن الأمانة فينا إنما يغتلي ارتياب الذي يهوى إذا كان بالحبيب ضنينا والذي خاف ضيعة الحب ما أحسبه في هواه إلا أمينا وإذا استعرضنا عناوين كثير من قصائده في الفترة التي تلت بدايات تعلقه بها، وجدناها تنضح بالشك والتوجس :شك المحبين بين الشك واليقين، ظن المحبين.. وحين يشتد به القلق يكتب خاطرة يصور فيها خشيته من أن يكون قد باع حبه لمن اشتراه بثمن بخس: بين ذل الهوى وعزة نفسي ضاع قلبي فما عرفتُ التأسي وعزيز عليّ أني أضيّع القلب في الحب بين ظنٍ وحدسِ كلما قلت هينُ في هواها ما ألاقي من وحشة بعد أنسِ خفت أني أكون أعطيت قلبي للذي باع حبه بيع بخسِ وفؤادي أعزّ ما أقتنيه في حياة أعيش فيها بحسّي وأدرك رامي هذا الحب الذي يسري في عروقه، ولكنه يحسّ بظلم الحب الذي سيطر عليه وملأ وجدانه: ولقد أهنتُ مدامعي فسفحتها وأطلتُ فيكِ تغزلي ونسيبي وتخذت منك لخاطري أنشودة وقعتُها بتنهدي ونحيبي فإذا بسمعك صمّ عن لحن الهوى وإذا بقلبك لا يحسّ وجيبي وإذا بقلبي بعد أن حمل الضنى لم تبق منه مرارة التجريبِ ولكن هذا الإيقاع العاطفي الحزين سرعان ما ينتقل إلى إيقاع آخر، إذ ينفعل رامي ويذكر محبوبته بأنه هو الذي صنع لها من فنه وفكره المجد الذي ترتع فيه: من أنت حتى تستبيحي عزتي وأهين فيك كرامتي ودموعي وأبيتُ حرّان الجوانح صاديا أصلى بنار الوجد بين ضلوعي أعمى عن الحسن الذي هامت به نفسي وطال إلى اجتلاه نوازعي وأصمّ عن نغم عشقتُ سماعه أيام كان القلب غير سميع إني كسوتك من خيالي حُلّة وشّيت صفحتها بزهر ربيعي ولكن هذه الثورة لم تبلغ حد القطيعة، فما كان كلاهما قادراً عليها، لكنهما كان مختلفين في دوافع عدم القدرة، هي لم تكن قادرة على القطيعة لأنها لا تريد أن تفقد منبعاً أصيلاً من منابع المعنى البكر واللغة الراقية لأغانيها، وهو لم يكن يريد أن يفقد هذا النبع الأصيل من منابع الإلهام الذي يحقق من خلاله أعز أمانيه لأنه كان يؤمن أن في روحه طاقة يجب أن يفرغها في سمع الزمن قبل أن يغادر عالم الأحياء: لا أريد الرحيل عن هذه الدنيا ولم تمتلئ ببثّ جناني إن صعباً على المزاهر تغنى لا تناغي على أكف القيان الواقع أن رامي كان يتخذ من أم كلثوم ملهمة لشعره، إذا قلّب المرء دواوينه لا يجد جملة واحدة خارجة عن الحب العذري. الحب عنده ليس وسيلة إلى إشباع الجسد، بل هو نبع إلهي من منابع الشعر، يسقي خواطره بالمعاني، ويبعث في قلبه وعقله الأمل والنور والحياة. هويتك لم أطلب مساجلة الهوى فأسمى الهوى ما كان غير سجال صليني وإلا فاقطعيني فإنني أحبك في هجر وطيبِ وصالِ كان حب رامي لأم كلثوم حباً من أجل الشعر أيضاً، كان يحبها كثيراً ولكن عينه دائماً على شعره، وقد وقع بعض النقاد على هذا المعنى في شعره، إذا كان يحب وعينه على الشعر مفرغاً من العاطفة الفحلة البدوية التي نحسّها في الشعر العذري، لأن العذريين كانت أشعارهم لا تشغلهم عن عواطفهم، أو أنهم لم يكونوا يقسمون أنفسهم إلى قسمين: قسم يحب وقسم يراقب أحوال هذا الحب ليجسم حالاته الانفعالية والنفسية شعراً كما فعل رامي فلم يكن حبه حباً لذاته، بل لاستخراج ما فيه من شعر. وقد أحب رامي أم كلثوم حباً ما بعده حب، حباً، كقطرات الندى، كذرات الرياح، قال مرة: قلبي يخفق دائماً بالحب، إنه أساس حياتي، إنني أحب كل النساء وكل الأنواع، أحب الجاهلة والمتعلمة، الحضرية والريفية، العربية والإفرنجية، السمراء والشقراء، الأصغر مني والأكبر مني أيضاً. وقد عاشت تجربته مع أم كلثوم خمسين سنة حتى ليشعر من يتعرف إليها أنها أقرب إلى الأساطير: أرتل فيك أشعاري وأصغي إلى ترجيعك العذب الحنون وأنظم فيك من حبات قلبي معاني الوجد والحب الحزين حرمتك هيكلاً ونعمت وحدي بروحك أستبينه ويستبيني جلوت لناظري روض المعاني فغرد خاطري بين الغصون وردد من غنائي فيك حتى سرت في الجو رائحة الحنينِ ونجد عند رامي نوعاً من العشق الروحي: أحبها وأحب الشعر في فمها ينساب كالماء يجري ثم يندفقُ وأستلذّ المنى فيها وإن كذبت وأكذب الناس حبيها وإن صدقوا كتمت حبي حتى قد أسّر به دمعي العصي وأفشى سري القلقُ ويظهر في شعره خوفه ولوعته من الفراق، وألمه من الوحدة، وعذابه مع الليل الطويل: إذ صوت الليل يؤلمه، وهدوء النوم يشجيه، فيطير بجناحيه إلى دار محبوبته في ظلمة الليل فيتباكى ويتشاكى، ثم يعود إلى داره لينتظر ليلاً جديداً. ونجد كل ذلك في ذكريات التي تغنيها المعشوقة الخالدة: ذكريات عبرت أفق خيالي بارقاً يلمع في جنح الليالي نبهت قلبي من غفوته وجلت لي سرّ أيامي الخوالي إنها قصة حبي ذكريات داعبت فكري وظني لستُ أدري أيها أقرب مني هي في سمعي على طول المدى نغم ينساب في لحنٍ أغّنِ بين شوق وحنين وبكاء وأنين كيف أنساها وسمعي لم يزل يذكر دمعي وأنا أبكي مع اللحن الحزين كيف أنسى ذكرياتي وهي في قلبي حنين كيف أنسى ذكرياتي وهي أحلام حياتي إنها صورة أيامي على مرآة ذاتي عشتُ فيها بيقيني وهي قرب ووصالْ ثم عاشت في ظنوني وهي وهم وخيال وستبقى على مرّ السنين وهي لي ماضٍ من العمر وآت.. ونتابع سيرة الشعر والحب في عدد قادم.

مشاركة :