ألقى الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن محمد الفيصل، رائد تحقيق الشعر العربي، محاضرة بعنوان: «المتلمس شاعر الغربتين»، وذلك بدعوة من اللجنة الثقافية في الأفلاج التابعة للنادي الأدبي بالرياض، بمقر المكتبة العامة بليلى في محافظة الأفلاج، وعلى هامش المحاضرة تم تدشين رواية: «ضباعة العامرية»، للدكتور الفيصل وتدور أحداثها بمدينة ليلى، وقد حضر المحاضرة التي وجه الدعوة إليها الأستاذ راشد بن إدريس آل دحيم، رئيس اللجنة الثقافية بمحافظة الأفلاج، جمع من المثقفين والأدباء والمهتمين بالشأن الثقافي من داخل المحافظة وخارجها لحضور هذه المحاضرة، ومن ضمن الحضور: الأستاذ محمد المنصور، وكيل وزارة الثقافة والإعلام سابقًا، وسعد الجريس مدير عام الإذاعة سابقًا، والدكتور عبدالله الحيدري الأستاذ المشارك في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام، والدكتور محمد بن عبدالعزيز الفيصل، وعدد من المسؤولين والمهتمين بالثقافة والأدب في محافظة الأفلاج، وفيما يلي نص المحاضرة التي ألقاها الدكتور الفيصل: «وُلد المتلمس في بلدة قران الواقعة في قلب اليمامة في أول القرن السادس الميلادي بين أخواله بني يشكر، وقد عاش طفولته وشبابه في هذه البلدة، ولم تسعفنا المصادر عن مجيء والده إلى بني يشكر والزواج فيهم، أما ابنه المتلمس فقد تفتحت عيناه على هذه البلدة فهي بلدته التي عرفها في هذه الدنيا الفسيحة، والطفل تستقر في ذهنه الصور الأولى لما حوله فيتخذها من المسلَّمات، وهكذا دلف المتلمس إلى مرحلة الشباب وهو لا يشك أن قران بلده ومستقره، ففيها معيشته وأمه وأخواله وأصدقاء الطفولة ثم الشباب، ومن ثم اختار زوجته في هذه البلدة فاقترن بها وأنجب وعاش عيشة كريمة كأحد أبناء بلدة قران، ولكن هل تصفو الحياة دون منغصات؟ لقد ذاع خبر حديث الحارث بن التوأم اليشكري مع ملك العرب عمرو بن هند في أحياء العرب ووصل إلى اليمامة، وتهامس أهل القرية في نقيصة المتلمس، فهم كانوا يرونه واحداً من بني يشكر ولكن بعد حديث ابن التوأم تفتحت أعينهم على رؤية جديدة تناول نسب جرير بن عبد المسيح، وكثر الهمس في المجالس، فهذا خبر تحدث فيه الملك وأخبار الملوك يتلهف إليها الإخباريون فيتلقفها الرواة، وتمتد الأحاديث فيها وكل ناقل يزيد كلمة أو يحوِّر كلمة. في الجو المشحون بالضغينة، لم يستطع جرير بن عبد المسيح البقاء في بلدته التي نشأ فيها وأحبها وألف قاطنيها وأحبهم، فالهمس يمتد والوشاية تنهج طرقاً مختلفة، فلم ير جرير بن عبد المسيح بُداً من مغادرة بلدته قران واللحاق بقومه بني ضبيعة، فاتجه إلى الخرج حيث يقيم قومه، فغادر ذكريات الطفولة وملاعب الشباب، وأخذ يقول القصائد التي تعبِّر عن مغادرته وما تحويه من مرّ يتجرعه أو الرد على ابن التوأم في اتهامه، وكلها قصائد صنعها الموقف الذي مرَّ بالمتلمس، وهو الشاعر القادر على تصوير المواقف بكل تفاصيلها، وإظهار الحقائق للناس، حتى يُكشف المُغَطى، ويَتَبيَّن الظلم الذي لحق بالشاعر، من ذلك الاتهام الذي أذيع في مجلس الملك. ومن تلك القصائد قصيدته التي مطلعها: تَفرَّق أهلي مِن مُقيمٍ وظاعِنٍ فلله درِّي أي أهلي أتْبعُ ومنها: ألِكنِي إلى قوْمي ضُبيْعة أنَّهمْ أُناسي، فلُومُوا بعدَ ذلك أو دعُوا وقدْ كان أخوالي كريمًا جٍوارُهُم ولكنَّ أصل العُودِ مِن حيْثُ يُنْزعُ وقصيدته الميمية التي يعاتب فيها ابن التوأم اليشكري، ومنها: أحَارِثُ إنَّا لوْ تُشاطُ دِماؤُنا تَزَيَّلن حتى لا يَمَسَّ دمٌ دَمَا وفيها: ولَوْ غيرُ أخْوالي أرَادُو نَقِيصتي جَعلْتُ لهُم فوْقَ العَرانين ميسما وعندما استقر المتلمس في قومه تفاعل مع أحداث القبيلة من نزاع وحرب، والحروب التي تحدث بين قبائل ربيعة كثيرة وأكثر ما يكون نزاعُ بني ضبيعة مع بني حنيفة بسبب الجوار، فعندما تتصادم المصالح تحدث الحرب، فقصيدة المتلمس التي أولها: أبْلغْ ضُبيْعة كهْلَهَا وَوَلِيدها والحَرْبُ تنْبو بالرِّجالِ وتَضْرَسُ وهذه القصيدة تتناول الحرب القائمة بين بني ضبيعة وبني حنيفة، وتحريض بني ضبيعة يرد في أبيات منها: القَوْمُ أتُوكُمْ بأرْعَن جَحْفلٍ حنقينَ إلا تَفْرِسُوهُمْ تُفْرسُوا ويذكر خصوم بني ضبيعة وهم حنيفة في قوله: أتقول: هم منعوا حنيفة حقهم بعد الكفالة والتوثق أم نسوا وترد هذه الخصومة بين بني ضبيعة وبني قران من حنيفة في قصيدته التي أولها: أعاذل إن المرء رهن مصيبة صريع لعافي الطير أو سوف يُرمس يقول في حث قومه: فلا تقبلن ضيما مخافة ميتة ومُوتن بها حرًا وجِلدُك أملس ويذكر بني قران في قوله: وجمع بني قران فاعرض عليهم فإن يقبلوا هاتا التي نحن نوبس وينتقل المتلمس إلى العراق طلباً لهبات الملوك، فهو شاعر معروف بدليل سؤال عمرو بن هند عن نسب المتلمس في أول حكمه، فوجود المتلمس في العراق متقدم على حكم عمرو بن هند، فالمتلمس مستقر في العراق في حكم والد عمرو بن هند المنذر، ونبحث عن سبب انتقال المتلمس من اليمامة إلى العراق فلا نجد سببًا واضحًا غير طلب لعطاء، ونستشف من عبارة عمرو بن هند في جوابه على ما قال الحارث بن التوأم اليشكري (ما أراه إلا كالساقط بين الفراشين) عدم رضاه عن المتلمس، ثم إن عمرو بن هند ألحق المتلمس مع طرفة بأخيه الشقيق قابوس بن المنذر، فهو لا يرغب في رؤية المتلمس وطرفه في مجلسه، وكان قابوس من هواة الصيد فكان المتلمس وطرفة يخرجان معه في رحلات صيد لا تنقطع، فهما يركضان طول النهار، وفي اليوم التالي يسرف في الشراب فيقفان على بابه، وتمر الأيام ثقيلة على الشاعرين يوم إجهاد ويوم ملل دون عطاء، هذا الملل ولَّد شعرًا تسرب إلى أذن عمرو بن هند فكان هذا الشعر سبباً في رغبة عمرو بن هند في التخلص من المتلمس وطرفة، ومما قال المتلمس: أطردتني حذر الهجاء ولاوللات والأنصاب لا تئل ومما قاله طرفة: فليت لنا مكان الملك عمرو رغوثاً حول قبتنا تخور والهجاء الذي يقوله المتلمس أو طرفة في عمرو بن هند فلتات لسان بسبب الملل والسأم من الحياة مع قابوس بن هند، فهو لا يصل إلى سمع عمرو بن هند، وعندما وصل شيء من هذا الشعر كافأهما بالقتل، وقد وصل شعر طرفة في هجاء عمرو بن هند عن طريق ابن عم طرفة وزوج أخته عبد عمرو بن مرثد فهو من خاصة الملك، فكان عبد عمرو مع الملك في ضيعة له فقال الملك تجردوا من ثيابكم واستنقعوا في الماء، فتجرد خاصة الملك وهو معهم، فلما رأى جسم عبد عمرو قال: صدق ابن عمك طرفة عندما قال فيك: ولا خير فيه غير أن له غنى وأن له كشحاً إذا قام أهضما يظل نساء الحي يعكفن حوله يقلن عسيب من سرارة ملهما فقال عبد عمرو: طرفة لم ينج منه أحد حتى الملك، فقال عمرو بن هند: هل قال فيَّ هجاء؟ فقال عبد عمرو: نعم، وتراخى عبد عمرو عن ذكر الهجاء ولكن الملك طلب منه أن يذكر ما قال طرفة فقال عبد عمرو: قال في الملك: فليت لنا مكان الملك عمرو رغوثاً حول قبيتنا تخور وبما أن الملك قد تحقق من هجاء طرفة ونما إلى سمعه هجاء المتلمس فقد عزم على التخلص من الشاعرين فكتب كتابين للمتلمس وطرفة، والكتابان موجهان إلى والي البحرين أبي المناذر، وفي الكتابين الأمر بقتلهما، وقد خرج المتلمس وطرفة متوجهين إلى البحرين، فرغب المتلمس في معرفة ما في كتابه فعرضه على غلام يجيد القراءة فقرأه على المتلمس فإذا فيه الأمر بقتله فنصح المتلمس طرفة بقراءة كتابه فأبى فهرب المتلمس إلى الشام وهو يقول: ألقى الصحيفة كي يخفف رحله والزاد حتى نعله ألقاها ومضى يظن بريد عمرو خلفه خوفاً، وفارق أرضه وقلاها ويتذكر العراق خلفه فيتحسر عليه ولكن لابد من الفرار: إنَّ العِراقَ وَأَهلَهُ كانُوا الهَوى فإذا نأى بي وُدُّهُم فَليَبعُد فلتتركنهم بليل ناقتي تذر السماك وتهتدي بالفرقد وهروب المتلمس من العراق إلى الشام في آخر القيظ، فسهيل قد لاح في الجنوب، فالليل مُعْتَكِر الظلمة وسهيل يتلألأ، وناقة المتلمس معقولة وراكبها قد عزب عنه النوم فهو ينتظر الإشراق ليتابع سيره إلى الشام، يقول: حنت قلوصي بها والليل مطرق بعد الهدو وشاقتها النواقيس معقولة ينظر التشريق راكبها كأنها من هوى للرمل مسلوس وقد ألاح سهيل بعدما هجعوا كأنه ضرم بالكف مقبوس ثم يخاطب ناقته قائلاً: أمي شآمية إذا لا عراق لنا قوماً نودهم، إذ قومنا شوس لن تسلكي سبل البوباة منجدة ما عاش عمرو، وما عمَّرت قابوس ويخاطب عمرو بن هند في قوله: آلَيْتَ حب العراق الدهر أطعمه والحب يأكله في القرية السوس لم تدر بصري بما آليت من قسم ولا دمشق إذا ديس الكداديس قال المتلمس هذا القول لأن عمرو بن هند قد قال: «واللات لا يذوق حب العراق ما حييت» ويشير إلى مغادرة العراق في قصيدة أخرى: شد المطية بالأنساع فانحرفت عرض التنوفة حتى مسها النجد وفي البلاد إذا ما خفت نائرة مشهورة عن ولاة السوء مبتعد ويقول في القصيدة نفسها: ولن يقيم على خسف يسام به إلا الأذلان عير الأهل والوتد هذا على الخسف مريوط برمته وذا يشج فما يرثي له أحد ويحل الربيع والمتلمس بالشام فيتذكر اليمامة فيردد: وذاك أوان العرض حَيٌّ ذبابه زنابيره والأزرق المتلمس ويُزفُّ إلى المتلمس مقتل طرفة فيتألم ويقول: عصاني فما لاقى الرشاد وإنما تبين من أمر الغوي عواقبه ويقول فيه: ثكلتك يا ابن العبد أمك سادرا أبساحة الملك الهمام تمرس ويقول أيضاً: كطريفة بن العبد كان هديهم ضربوا قذالة رأسه بمهند والدالية المحتوية على البيت المتقدم جلها في هجاء عمرو بن هند، ومنها: إن الخيانة والمغالة والخنا والغدر أتركه ببلدة مفسد ملك يلاعب أمه وقطينها رخو المفاصل أيْرُه كالمرود» ...يتبع.
مشاركة :