جورج يرق: شاب يعمل في ثلاجة الموتى دلني إلى السرد

  • 7/20/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بيروت إسماعيل فقيه: فجأة، وبصمت كلّي أطلّ جورج يرق، برواية أولى ليل، وبثانية حارس الموتى. بين الروايتين مسافة زمنية قصيرة، كأنّ راويهما أرادهما، مسافة واحدة في زمن متحوّل ومتغيّر. قال الراوي الكثير في الروايتين، استحضر تفاصيل الحياة التي عاشها وعايشها. دخل إلى أعمق، إلى حيث تكمن مفاجآت الحياة ومفاجآت الرّجاء والأمل. والأهم أنه طرق باب الخوف ودخل إلى المساحات الاجتماعية الملتهبة، لامس (الجوهر الملتهب). جورج يرق روائي جديد، مبدع يأتي فجأة إلى كتابة الرواية، وينجح في رسم خطواته الإبداعية الواثقة. ويتحدث هنا عن تجربته، ونتعرّف إليه عن كثب. } فاجأتنا برواية أولى ليل والثانية حارس الموتى وربما الثالثة على الطريق. منذ متى وكيف ولماذا قررت الدخول في عالم كتابة الرواية؟ - لما كنت قررت الإقلاع عن متابعة العمل في الصحافة، بعد ستة وثلاثين عاماً والاستراحة، تمهيداً للانطلاق في مجال التأليف التلفزيوني، انصرفت إلى الكتابة الروائية. ولا أخفي أني عملت مدققاً لغوياً ومحرراً لمدى خمس سنوات في دار الساقي وسنتين في دار الآداب، وكنت أحياناً أتدخل في النص، وبعض النصوص كانت لروائيين معروفين، فأنصح الكاتب بإزالة الحشو والحذف. بعضهم كان يقبل النصحية شاكراً وبعضهم كان يرفض التغيير بحجة غير معلنة، هي من أنت حتى تتدخل في نصوصنا. الفئة الثانية أشعلت فيّ التحدي، فكان هذا السبب، إلى أسباب أخرى، محرضاً لي على الكتابة. لا بأس في أن أذكر أني قبل كتابة الرواية، جرّبت كتابة الشعر، تحديداً قصيدة النثر، لكني لم أنشر لغياب اقتناعي بجودة ما كتبت. فأقلعت عن معاودة التجربة مطبقاً، من باب الدعابة، قول امبرتو ايكو هنالك نوعان من الشعراء: الجيدون الذين يحرقون قصائدهم في سن الثامنة عشرة. والسيئون الذين يواصلون كتابة الشعر إلى آخر يوم في حياتهم. فأنا طبعاً لم أكن من الفئة الأولى. والآن، عندما أعود إلى قصائدي تلك، لا يعروني أي ندم على عدم النشر. } كيف بدأت رحلتك مع الرواية الأولى، ومتى قررت إعلانها جهاراً؟ - لدى انقطاعي عن العمل الصحفي اليومي، سكنت في شاليه مطلة على البحر. وكان لدي متسع من الوقت للتأمّل والقراءة. ولما كانت فكرة الكتابة عن عالم الفايس بوك قد راودتني منذ ذيوع هذا الموقع الاجتماعي حتى بات شاغل الناس. صمّمت بُنية الرواية، ومحورها أن رجلاً يصطاد نساءه من خلال الفايس بوك، ويروي كيف تعرّف بكل منهن. كتبت ثلثها تقريباً، وما إن وصلت إلى شخصية المرأة الكفيفة حتى وجدت أن هذه الشخصية، لغناها الداخلي والنفسي، تستحق وحدها رواية. فلم أكمل ما بدأته. إنما باشرت كتابة رواية أخرى. هكذا ولدت ليل. قبل إتمام الرواية، وكانت وقتذاك في تركيبتها الأولى، طلب إليّ الشاعر الصديق عقل العويط (وهو للمناسبة كان يحرّضني على الكتابة ويلومني على كسلي)، وكان يعدّ عدداً خاصاً لملحق النهار الثقافي موضوعه العالم الافتراضي، طلب أن أرسل إليه فصلاً من الرواية التي كنت أطلعته عليها، لينشره في العدد الممتاز الذي صدر رأس سنة 2009. واتفق أن تناقلته بعض المواقع الإلكترونية، وانهالت عليّ الردود ممتدحة ومطالبةً بنشر المزيد من الفصول. وهذا كوّن لي حافزاً إضافياً. } والرواية الثانية، هل كانت تلحّ عليك لإنجازها؟ - كانت فكرتها جاهزة. وقد أكببتُ على كتابتها بعد الصدى الطيّب الذي واكب ليل. } هل هي واقعية أو مزيج وعي خيالي، أو أنك تتقدم بكتابة جديدة، ربما؟ - نواة الرواية واقعية. بدأت ألتقط خيوطها العام 1992 عندما تعرّفت بشاب في بيت للطلاب حيث كنت أقيم، يعمل في ثلاجة الموتى (معروفة في لبنان باسم البرّاد). وطالما حدثني في المساء عما عاينه وعاشه نهاراً في المستشفى. بمرور الوقت، تراكمت الحكايات والأخبار، فولّدت لدي فكرة الرواية. كتبت بضعة فصول منها، ونشرت أحدها في جريدة النهار، فلقي صدى مشجّعاً. ثم لأسباب خاصة توقّفت عن الكتابة. وانصرفت إلى العمل الصحفي اليومي. وصودف أن الشاعر والناقد عبده وازن قرأ الفصل واستحسنه، ومضى كلما التقينا أنا وهو، يحثني على تكملة الرواية. ولم أفعل، إذ حينذاك كنت منحازاً إلى عيش الحياة لا الكتابة عن الحياة، حتى إنه هددني ذات لقاء بأنه سيأخذ الفكرة ويبني عليها روايته. صحيح أني استفدت كثيراً من مرويات الشاب، لكن اللعبة الفنية اقتضت الاستعانة بالمخيلة لملء الثُغر وبث شيء من التشويق. فأضفت حوادث ومواقف من نسج الخيال، خصوصاً في الجزء المتعلق بالمستشفى والبرّاد. أما الجزء الأول من الرواية، أي هروب الراوي من ضيعته ومجيئه إلى بيروت وتشرّده في المدينة ثم التحاقه بثكنة أحد الأحزاب، وخوضه معارك... فهذه كلها متخيلة، أو أن المخيلة نسجتها من شتات ذكرياتي عن الحرب التي عشتها على طريقتي. } إلام تهدف في كتابة الرواية التي تستحضر واقعك وتالياً، واقعنا كمجتمع منهك ووطن ممزّق؟ هنالك أهداف عدة. أبرزها ليس نثر الملح على الجروح بل إعمال السكين فيها بغية اجتثاث القيح حتى إذا التأمت تلتئم على شفاء. وجروح حياتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية والتربوية كثيرة، وقد نكأتُ بعضها في ليل من مثل الخفة السائدة في المجتمع المخملي البيروتي، والفساد الذي يتحكم في سلوك بعض الرهبان، وسوء المصير الذي لقيه المقاتلون بعد انتهاء الحرب وتحوّلهم متوارين عن الأنظار والسفر إلى الخارج هرباً من الاضطهاد وملاحقات السلطة، وهم الذين خاضوا الحرب ببواريد الصيد دفاعاً عن القضية التي يرفعون لواءها. أما حارس الموتى فتسترجع مآسي الحرب لا لكي تقضّ الذاكرة بل لكي تقول كم أن الحرب غيّرت مصاير ورسمت أقداراً ولولاها لكانت تلك المصائر والأقدار ذهبت في اتجاه آخر. إنها تدين الميليشيات وتظهر عبث الحروب وتكشف مدى الدور الذي قد تلعبه المصادفات في حياة الناس. وبطلها هو ضحية سلسلة من المصادفات. } هل يمكننا إدراج روايتك بين الروايات الهادفة والتي قد تحمل في طياتها وعداً بالتفوق الإبداعي؟ - صراحة لا أحمّل الأدب تلك الوظيفة التي يحمّله إياها بعضُ الكتّاب، وهي تغيير العالم. ومن المضحك أن عدداً من المتشدقين بتلك المقولة، (ومثلهم أولئك المتشدقون بكلمةمثقف بين عبارة وأخرى) يصدّق نفسه فيمشي كأن السماء على كتفيه. ومع أني لست من دعاة التصحيح والتغيير من طريق الأدب، تضمنت ليل نقداً قاسياً لذوي الكراريس الشعرية البليدة، ولبعض حراس اللاهوت المسيحي، وللأحزاب. كذلك تضمنت حارس الموتى نقداً للميليشيات وللمستشفيات والأطباء. لو كان الأدب قادراً على التغيير لكانت الدنيا، دنيانا العربية على الأقل، في ألف خير، لا تنهشها حروب المذاهب والتكفير ومشاهد قطع الرؤوس. والآتي أعظم. لسواي أن يقول كلمته في شأن الوعد الإبداعي الذي قد تحمله الرواية. أنا عملت ما عليّ أن أعمله. اجتهدت ليأتي السرد حاراً والشخصيات متماسكة والجو الدرامي غنياً. صدى إيجابي بلغني من قراء ليسوا غرباء عن عالم الروايات. لكن النقد لم يقل كلمته بعد، وقد استهلته الشاعرة جمانة حدّاد بمقالة في جريدة النهار اللبنانية، وصفت فيها الرواية بالكتاب الذي تتركه مرغماً وتعود إليه متحمساً.. ويستفزك على تقليب صفحاته. } في الروايتين وصف دقيق لسير المعارك والدفاع والهجوم، وصف لا يحسنه سوى من خاض الحرب مشاركةً شخصيةً لا سماعاً فحسب. أَسبقَ أن لبست ثياب الميدان وقاتلت؟ - لم أكن مقاتلاً. أجهل حتى استخدام المسدس. لم أحمل مرةً سكيناً من باب الحيطة والدفاع عن النفس عند الاقتضاء.. ذات يوم اقتنيت مسدساً، هو في الحقيقة لعبة، يتعذّر تمييزه من المسدس الحقيقي. قلت أستعمله للتهديد إذا هوجمت، موهماً السارق، أو الذي يريد أذيتي، أني مستعدّ للدفاع عن نفسي قاتلاً أم مقتولاً. لكني بعد تفكير تخلّصت منه إذ إشهاري له قد يتسبب بقتلي، لأنّ مهاجمي الافتراضي لن يعرف أن سلاحي مجرّد لعبة. عشت على هامش الحرب وعانيت ويلاتها وانعكاساتها تماماً كالكثير من الناس الذين أصيبوا بفقدان أصدقاء وأهل وأنسباء، وبخسارة الممتلكات والأحلام. أما كيف استطعت وصف المعارك فهنا تنبري المخيلة، بمعاونة الذاكرة الملأى بالصور والمشاهد المستمدة من غير مصدر، إلى القيام بدورها.

مشاركة :