الشارقة: أوميد عبدالكريم إبراهيم عُرِف عن الفنان الهولندي الكبير رامبرانت أنه كان ينطلق في معظم أعماله، من الذات، وأنه عَرَفَ كيف يرسم ذاته، ومن الأمثلة التي يتم الاستشهاد بها في هذا الإطار لوحة «دورية الليل» أو «الحارس الليلي» كما يحلو للبعض تسميتها، والتي أنجزها رامبرانت في فترة سُمّيت ب«العصر الذهبي في هولندا»، وتحديداً في العام 1642، وفيها يُصوِّر الفنان الهولندي مجموعة عسكرية شهيرة تدعى «فرقة المنطقة الثانية بقيادة فرانس بانينك كوك، ومساعده ويليام فان رويتنبيرج لإطلاق النيران».اللوحة المعروضة ضمن مقتنيات متحف أمستردام في هولندا لا تعتبر باكورة أعمال رامبرانت فحسب؛ بل لا تزال أيقونة فنية في تاريخ هولندا منذ أن أبصرت النور وإلى يومنا هذا، وقد كان للفترة الذهبية التي تمر بها هولندا آنذاك تأثير على أعمال الفنان الهولندي وزملائه، والتي شُبِّهت بعصر النهضة في إيطاليا؛ حيث أصبح للإنسان الحيز الأكبر من الاهتمام بعيداً عن الغوص في متاهات «الميتافيزيقية» والتاريخ المتشرِّب بالأساطير؛ لذلك سُميَّ بعصر التنوير الإنساني ثقافياً، فكرياً واجتماعياً. دلالات ورموز يُسلّط الفنان الهولندي الضوء على الشخصيات الرئيسية الثلاث في اللوحة، وهي النقيب فرانس بانينك كوك الذي يرتدي ملابس سوداء مع وشاح أحمر، والملازم الذي يعمل مساعداً تحت إمرته ويليام فان رويتنبيرج، والذي يرتدي ملابس صفراء مع وشاح أبيض؛ بالإضافة إلى المرأة التي تظهر خلفهما إلى يسارِ وسطِ اللوحة وهي تحمل دجاجة نافقة بين يديها، وقد لجأ رامبرانت إلى استخدام الضوء والظلال بطريقة متقنة لتحقيق هذه الغاية، كما يظهر عدد كبير من الأشخاص؛ بينهم رجل يرتدي خوذة عليها ورق نبات البلوط، وهي إشارة عسكرية رمزية في تلك العصور.ابتعد رامبرانت في لوحة «دورية الليل» عن المفاهيم التقليدية في تصوير المجموعات العسكرية الثابتة، وتعمَّد استخدام الضوء والظل بطريقة درامية تغلب عليها القتامة؛ فضلاً عن الأبعاد الكبيرة للوحة «437 × 363 سم»، وقد وصف النقاد هذه العوامل الثلاثة بأنها من أبرز الأسباب التي استمدت منها هذه اللوحة شهرتها، وإلى جانب ما سبق؛ استخدم رامبرانت بعض الشعارات التقليدية والرموز؛ مثل «القربينة» التي كانت من أهمِّ الأسلحة حينذاك، واللون الأصفر الذي يرمز إلى النصر، وكذلك الدجاجة النافقة التي تشير إلى الخصم أو العدو المهزوم، وقد تحولت اللوحة إلى فيلم سينمائي بريطاني عام 2008. أسلوب مغاير كانت التشكيلات العسكرية، وكذلك جمعيات الصناعيين والتجار وغيرهم في تلك الفترة تطلب من كبار الفنانين إنجاز أعمال فنية من هذا النوع، وليس فقط من رامبرانت، وذلك بهدف توثيق اللحظات وتخليد الشخصيات وما شابه ذلك، وقد كان معظم الفنانين آنذاك يرسمون الأحداث بطريقة تشابه التصوير الفوتوغرافي في القرن العشرين؛ أما الفنان الهولندي الكبير؛ فقد لجأ إلى أسلوب مختلف، وبثَّ الروح في لوحة «دورية الليل»؛ لدرجة أن الناظر إليها يكاد يشعر بشخوص اللوحة وهي تتحرك فعلياً؛ لا سيما القائد «كوك» الذي يظهر في وضعية إصدار أمرٍ ما؛ في حين يستعد باقي الأشخاص للتحرك وتنفيذ الأوامر.عندما أنجز رامبرانت هذه اللوحة وهو في قمة عطائه الفني؛ أطلق عليها اسم «فرقة الكابتن فرانس بانينك كوك»، وذلك بطلب من قائد الفرقة نفسه، ولكن سُميت لاحقاً ب«دورية الليل»، وتحديداً بعد إعادة اكتشافها في القرن التاسع عشر، وإلى جانب قائدها؛ يظهر عدد من عناصر الفرقة الذين تلخصت مهمتهم في حراسة وحماية عدد من أحياء مدينة أمستردام، وقد عُلِّقت اللوحة على جدار كبرى قاعات مبنى هذه الفرقة العسكرية تمجيداً لبطولاتها وتضحياتها، وقد رسمها الفنان الهولندي مقابل مبلغ ضخم في ذلك الحين، وتكفَّل كل شخص ظاهر في اللوحة بدفع جزء من ذلك المبلغ مقابل ظهوره فيها؛ إلا أن الجزء الأكبر من المبلغ تكفَّل به كلٌّ من قائد الفرقة ومساعده. رحلة شاقة لم تدم فرحة الفنان الهولندي بهذا العمل الفني الضخم طويلاً؛ حيث تحوَّلت اللوحة إلى لعنة ونذير شؤم، وكاد رامبرانت أن يُفلس بسببها، وذلك نتيجة الاستياء الذي أعرب عنه عناصر الفرقة بسبب ما اعتبروه تمييزاً وتفضيلاً لقائد الفرقة ومساعده اللذين يظهران في مقدمة اللوحة بكامل تفاصيلهما على حساب بقية شخوص اللوحة، وللسبب ذاته بدأ أولئك العناصر بالتشهير برامبرانت لدى كبار شخصيات المدينة ونبلائها؛ الأمر الذي دفعهم إلى الإحجام عن أي تعامل تجاري مع الفنان الهولندي، ومن ثم بدأ رامبرانت رحلة شاقة لإقناع الجميع بقبول لوحته، وشرح من خلالها الأسباب التي دفعته لاختيار مقدار الحركة وتداخل الشخصيات، وغيرها من العوامل التي أصبحت لاحقاً أهم أسباب شهرة اللوحة ورواجها.سوء الطالع لم يلاحق رامبرانت وحده؛ بل لاحق اللوحة نفسها؛ حيث كانت هدفاً للمخربين في فترات زمنية مختلفة، ففي عام 1715 اقتُطعت عدة أجزاء منها بحجة أن حجمها لم يكن ملائماً للتعليق في إحدى قاعات مبنى الفرقة التي تظهر في اللوحة، وبعد نقلها إلى متحف «ريكس» في مدينة أمستردام عام 1887 تعرضت اللوحة لتلف كبير؛ أما في عام 1975؛ فقد تعرضت اللوحة لهجوم من قبل أحد الزوار الذي تعمَّد طعن اللوحة 12 طعنة بآلة حادة وهو يتمتم قائلاً: «يجبُ عليَّ أن أفعل هذا»؛ ليأتي زائر آخر عام 1990 ويرشّ اللوحة بمحلول حامض الكبريت، وقد تسببت تلك الحوادث بإلحاق أضرار جسيمة بها.
مشاركة :