الطموح على درجات ثلاث: طموح أكبر من إمكانات الإنسان، وطموح مساوٍ لإمكاناته، وطموح أصغر من إمكانات الإنسان.أما الطموح الذي هو أقل من إمكانات الإنسان فأمره هين، ولا يشقى الإنسان به، فالإنسان الذي لا يطمح إلى تحقيق الكثير هو إنسان لا يعاني كثيرا بسبب طموحاته، أما الإنسان الذي طموحاته مساوية لإمكاناته فحياته رتيبة لا يشعر الإنسان فيها بأن هناك صراعا بين طموحاته وإمكاناته، لكن الطموحات التي تتعب الإنسان، وتنغص عليه حياته، وربما تدفعه إلى فعل ما لا ينبغي له أن يفعله، فهي الطموحات التي لا تتفق وحجم إمكانات الإنسان.العيب ليس في حجم الطموحات، فالإنسان الذي يريد أن يترقى ويتقدم لا بد أن تكون طموحاته أكبر من إمكاناته، إنما العيب في أن تدفعك هذه الطموحات إلى الانحراف، وأن تتحكم فيك، وتوجهك الوجهة التي سوف تندم عليها طوال حياتك... لا مانع من أن تطمح فوق ما تملك من إمكانات، فذلك أمر مشروع، ولا غبار عليك فيه، شريطة ألا يحملك هذا الطموح إلى ما لا تحمد عقباه، فترتكب الحرام من أجل تحقيق الحلال، ذلك لأن الإسلام يهتم بالوسائل قدر اهتمامه بالغايات، فلا بد أن تكون الوسيلة شريفة والغاية كذلك شريفة، والإسلام في الحلال والحرام لا يقبل بالحلول الوسط، وعلى المسلم أن يتجنب الشبهات، لأن في اتقاء الشبهات نجاة للمسلم من الوقوع في الحرام، ولقد حذرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من مقاربة الشبهات، لأن من وقع في الشبهات وقع في الحرام، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم أن يحوم المسلم حول الحمى، وعلى المسلم أن يعمل بمقتضى القاعدة الفقهية الجليلة «درء المفاسد مقدم على جلب المنافع»، وعلى المسلم كذلك أن يسد باب الذرائع.إذن فالطموحات مشروعة لكن تحقيقها يخضع لإمكانات الإنسان، فإن حالت إمكاناته دون تحقيق طموحاته فعليه أن يؤجل هذه الطموحات أو بعضها حتى تتوافر له من الإمكانات ما يعينه على تحقيق طموحاته كما يحب ويتمنى.ومن الأمثلة في التاريخ على جناية الطموحات على أصحابها ما جرى لأمير الشعراء في العصر الإسلامي في زمن الدولة الحمدانية أبي الطيب المتنبي، وهو من أشهر الشعراء في عصره، حتى لقب بأمير الشعراء، ولقب كذلك بحكيم الشعراء بسبب كثرة الحكم في شعره، وكان من الممكن بل من المتيقن أن يظل محتفظا بإمارة الشعر ولا يستطيع أحد أن ينزعها منه لأنه استحقها عن جدارة، وهي إمارة لا يمنحها حاكم أو ملك، كما أنه لا يستطيع ذو سلطان أن ينزعها منه.لم يكتف المتنبي بإمارة الشعر، وما وصل إليه من شهرة بين شعراء عصره، لكنه تطلع وطمح إلى الإمارة السياسية، وهذه تمنح عند الرضا، وتنزع عند الغضب، فلا يستقيم أمرها، ولا يدوم بقاؤها.سعى المتنبي عند رأس الدولة الحمدانية طالبا منه أن يوليه إحدى الإمارات السياسية، فأبى سيف الدولة الحمداني عليه ذلك، فهجره وذهب إلى رأس الدولة الإخشيدية كافور الإخشيدي، وتقرب إليه بالمديح تمهيدا للوصول إلى غايته وهي الحصول على الإمارة، فكان رأي كافور الإخشيدي في المتنبي نفس رأي سيف الدولة الحمداني، فما كان منه إلا أن نظم قصيدة هجا فيها كافور الإخشيدي هجاءً قبيحا، ولما خشي على نفسه فر هاربا، فأرسل كافور في أثره أحد قُطَّاع الطرق فأدركه، فلما حاول الهرب ذكره غلامه بشعره الذي قال فيه:الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلموحين سمع غلامه يذكره بهذه الأبيات عدل عن الهرب، واضطر إلى المواجهة، فقضى عليه قاطع الطريق الذي أرسله كافور في أثره.إن طموحات المتنبي جنت عليه، رغم أنه كما أسلفنا حقق بطولات في ميدان الشعر لا يشق لها غبار حتى ذاع صيته، وانتشر شعره، وسار على ألسنة الرواة، حتى قالوا عنه: ما اجتمع أديبان أو مثقفان إلا كان المتنبي ثالثهما!!ومن الحكم التي اشتهر بها المتنبي في شعره، وكانت تغنيه عن التطلع إلى الإمارة السياسية التي عمرها محدود برضا الحاكم وسخطه، من هذه الحكم قوله في فلسفة الموت والحياة:كفى بك داءً أن ترى الموت شافياوحسب المنايا أن يكن أمانياوقال كذلك:إذا رأيت نيوب الليث بارزةفلا تظن أن الليث يبتسملقد كانت طموحات المتنبي تفوق إمكاناته؛ إذ إنه لم يكن يتمتع بموهبة سياسية تؤهله لإدارة شؤون الولاية، وتفوقه في الشعر حتى قلده معاصروه من الشعراء إمارة الشعر لا يعني أنه ذو حنكة سياسية، وقدرة على تصريف شؤون الرعية، ومن يرى نفسه متعاليا على الناس ويزكي نفسه في كل شأن من شؤون الدنيا فهذا إنسان لا يصلح للإمارة؛ لأنه مشغول بذاته عن الناس. إذن فالمتنبي لا يصلح للإمارة السياسية عند سيف الدولة الحمداني وعند كافور الإخشيدي، وهما من بيدهم توليته الإمارة، كما أنه لم يكن فارسا مقاتلا، ولا قائدا حربيا مثل أبي فراس الحمداني، الذي جمع بين الشعر والقيادة العسكرية، إذ قاد الجيوش، وفتح الأمصار، ومن شعره القصيدة المشهورة التي تغنى بها المطربون، ومطلعها:أراك عصي الدمع شيمتك الصبرأما للهوى نهي عليك ولا أمربلى أنا مشتاق وعندي لوعةولكن مثلي لا يذاع له سرلقد ملأ المتنبي الدنيا أدبا وحكمة، وشغل الناس الذين أحبوا شعره وحتى الذين حسدوه وبغضوه على مكانته، لكنه كان مشغولا بهاجس العظمة ويرى نفسه أحق بالإمارة ممن وصلوا إليها، فسعى لها وجاهد من أجلها طويلا حتى قادته إلى حتفه، ولو استغنى بإمارة الشعر وبمكانته بين شعراء عصره والعصور التي تلته لظل متربعا على عرش الإمارة الشعرية من دون منازع، ولكن طموحه الذي فاق إمكاناته جنى عليه وأورده موارد الهلاك، وكان سببا في نهايته المأساوية.
مشاركة :