معارك وهمية في ميادين الفن والأدب المنتصر فيها مهزوم | مصطفى عبيد | صحيفة العرب

  • 8/9/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

الكاتب مبدع والمبدع إنسان في النهاية يحب ويكره ولكن مشاعره أكثر تدفقا واهتماما بالخلق والابتكار، وكل خلق في النهاية جمال ما. لذا فالكاتب على عكس الإنسان العادي لا تقوده الكراهية إلى المس من حرمة غيره، بل هو يحرك مشاعره المتناقضة بوعي حاد ليخرج منها مخلوقه الأدبي، الذي يسعى من خلاله في النهاية إلى حماية الإنسان وضخ الحياة في شرايين الإنسانية بكل قيمها وفي ما حوله من طبيعة وعوالم. لذا لا يمكننا أن نتحدث عن كاتب مبدع مطلقا إذا كان هدفه قتل غيره فعلا أو رمزيا ومجازيا، فالكاتب خالق لا قاتل. المبدع بائع زهور، ويجوب البساتين والحدائق ليلتقط وردة برية خافية، فيهذبها ويغسلها وينزع شوكها، يرشها بالعطر، ثم يعرضها كآية من آيات الجمال لتُحيي في الإنسان مشاعر ناعسة، وتوقظ أجمل وأطيب ما فيه من رقة وذوق وتحضر، وتدفعه إلى الاستمتاع وحُب الحياة. المُبدع رساما كان أم نحاتا أم موسيقيا أم شاعرا أم روائيا، أو غير ذلك كله، هو نافذة مفتوحة، ومنظر خلاب، وصدر رحب، ويد تساعد، وسلم نحو الطمأنينة والرضا والسعادة. لا يصح أن يحمل كلاشينكوف، ولا ينبغي أن يرفع سيفا، أو يقذف حجارة، ولا هو مقبول منه أن يتحول إلى ميكرفون تحريض، أو جدار للكراهية، أو منصة تخوين وتكفير. ما شاهدناه مؤخرا في ساحات الإبداع العربي من انقلاب بعض المبدعين لثوار وساسة ونشطاء، ومن جنوح بعض الشعراء ناحية التحريض ضد الآخر والحض على الكراهية، وانجرار أدباء إلى معارك خشبية وعبثية ضد الحرية والفكر، يسكب ظلالا كثيفة من التشاؤم على مستقبل الإبداع، ويدفع إلى التساؤل عما يمنع البدر من اكتماله إلى قمر. كُنت أرى منذ نحو عقدين بصيص جمال في مشروع الأديب المصري علاء الأسواني بعد مجموعة قصصية نشرها بعنوان “نيران صديقة”، ولم يكن الرجل وقتها قد ملأ الأسماع والأبصار بعد. كانت كتاباته مختلفة وعميقة التأثير، وتحمل قدرا هائلا من العذوبة والسلاسة والإحكام البنائي، وكانت لغته جميلة وعذبة ومُحكمة، لكنه اليوم، وبعد أن صار ذائع السيط وشهيرا ومُنتشرا ومنتشيا، بزعم أنه كاتب عالمي، انتهى في رأيي كأديب، وخفت كمبدع. أشعر كأن الفن الحقيقي لديه قد مات، لأنه انجرف بقوة وحماس إلى الكتابة السياسية، فصارت تقود كتاباته الإبداعية وتُوجهها وتلونها، وتنحرف بها يمينا تارة، وتجنح بها يسارا تارة أخرى، فانحسر الجمال ولم يعد السرد لافتا أو ممتعا كما كان منتظرا. الفن الحقيقي يموت لدى الكاتب إذا انجرف بقوة وحماس إلى الكتابة السياسية فصارت تقوده وتُوجهه وتلوّنه قبل أيام احتفل الروائي المصري أشرف الخمايسي بنفاد الطبعة الأولى من كتابه الجديد “زيتونة زيدان”، واحتفى الجمهور الافتراضي العظيم للرجل بالطبعة الثانية، ليبدو لنا الروائي كأنه استطال طريق التألق الإبداعي عبر الفن الروائي أو حتى الأدب القصصي، فآثر التألق الإعلامي عبر معارك عبثية تحمل الكثير من الخطايا والمغالطات، وتجرفه بعيدا عن سمات المبدع، وقيم الفنان الحقيقي، لتضعه في خندق واحد مع محاكم التفتيش، وزبانية التحريض والتصيد والمكفرين. كُنت، وما زلت أستبشر بكتابات أجيال جديدة من المبدعين، يطرحون حكايات غرائبية بلغة سرد أخاذة، وكان الخمايسي على رأسهم، بصرف النظر عن توجهاته السلفية السابقة، فعندما قرأت روايته “منافي الرب” قبل ست سنوات، وجدت فيها عذوبة، هو إنسان يكتب بمداد الروح، ويطرح بُحرية لا ضفاف لها تساؤلات وجودية عفوية. استبشرت أكثر بالرجل عندما دعاني بعض الأصدقاء إلى قراءة روايته الأولى “الصنم” التي لم تأخذ حقها من الاحتفاء النقدي رغم جمالها وروعة الحبكة واللغة فيها. عندما التقيت بالخمايسي قبل عام، عقب صدور روايته “خروف وكلب”، وتناقشت معه حول رؤاه الفنية وتصوراته عن الفكر والأدب والحرية لم أجد في ما يقوله ما يعادي الفن، ولم أمسك عليه أي شطط إنساني تجاه الآخرين، لم ألحظ وقتها سوء ظن بالناس، أو حتى كراهية لخصوم أو مخالفين في الرأي. ذلك ما بدا دون مجاملة، لذا فقد كنت حريصا أن أتابع موهبة المبدع التي استثارت قرون استشعار الجمال عندي وقت قراءة “منافي الرب”. على مسافة ليست قريبة أو بعيدة كنت أتتبع ما يكتبه من بوستات عبر حسابه على فيسبوك، أو ما يطرحه من آراء في طلات فضائية كل حين، وكان بعضها غريبا أو مستهجنا، لكن اعتبرتها مجرد فضفضة فيسبوك. ظل الأمر كذلك حتى فوجئت بكتابه الجديد الذي مهد له قبل شهرين بوصلة هجوم غريب على الروائي والباحث يوسف زيدان. سعيت إلى الكتاب، وقرأته ليصيبني بحزن لا حد له، لا على يوسف زيدان المرجوم فيه بكل نقيصة، إنما على الراجم نفسه الذي كُنت آمل أن يواصل طريقه الإبداعي كروائي ساحر مهمته نثر الجمال، فإذا بي أمام رجل يضرب بعشوائية ويترك البناء ليتفرغ للهدم. جاء الكتاب مناقضا لروح المبدع، ونافيا لتسامحه المفترض، ومُتجنيا على خصمه دون سبب واضح أو مبرر شخصي سوى افتعال المعارك، ورفع لافتات التحريض والتشكيك والتكفير. بدا كل ذلك كاشفا لجينات رجعية أصيلة منغرسة تحت أقنعة الروائي والأديب والمثقف الموضوعي، تتساوى مع خطابات الأصوليين وجماعات التكفير تجاه خصومهم، مع اختلاف اللغة. منذ الصفحة الأولى للكتاب والخمايسي يحمل سيفا ليطعن في أخلاق زيدان، وعلمه وأدواته كمفكر، ومن موضوع إلى آخر يُعيد تفسير ما كتبه زيدان، بل وما قاله أيضا في الفضائيات ليتصيد الأخطاء، ويوجه الاتهام تلو الآخر كما يفعل خطباء الحسبة، ويحول نفسه إلى رقيب ديني يتحدث باسم الله، فيحكم على هذا بالمروق، وذلك باللاديني. يستخدم الرجل في كتابه مصطلحات تتجاوز الحوار الفكري الحضاري، لتمثل سبا مباشرا وقدحا في أخلاق ضحيته، يعاقب عليه القانون من عينة “ذو الوجهين”، “هو في كفة والمروءة في كفة”، “خبيث الطرح”، “ناقل تاريخ ليس موثوقا في أمانة نقله”، أو “ترزي أفكار يُفصل المواقف على هوى من يكافئ مجهوداته”. يستمد عنوان الكتاب نفسه من وصف ازدرائي سخيف، إذ يقول عن زيدان إنه “مثل زيتونة سوداء صغيرة ظلت تدحرج على الأرض دحرجة خنفساء لن تعدم قدما تدهسها سهوا أو عمدا”. ويصل الأمر بأشرف الخمايسي إلى أن يطعن في دين الرجل نفسه. أي قارئ لكتاب اللاهوت العربي لزيدان، أو غيره من كتبه لا يجد ما يستشفه الخمايسي فيها من كفر بواح، أو كراهية للإسلام، إنما هو افتعال المعارك العبثية للفت النظر، وهو التورط في اتهام المشاهير لدفعهم للرد والوصول إلى حالة لمعان مشابهة. هي الغيرة الطبيعية من حامل قلم يلفت الأنظار كلما كتب، ويثير الجدل كلما أطل، وهي أيضا بعض لحظات الضعف الإنساني التي قد تنتاب المبدعين حينا من الدهر عندما يشعرون بلاجدوى الكتابة، فيتعجلون الجماهيرية ويطلبون الاحتفاء الشعبي بأي وسيلة. مثل هذه المعارك فارغة وهواء في الهواء ولا تترك جمالا أو متعة والمنتصر فيها مهزوم ولا تُغير قبحا ولا تنفع الناس بشيء، بل تضر وربما ضررا بالغا إن استسهل إرهابي أو جاهل أن ينتصر للإسلام بقتل الخبثاء المستترين به مثل كل مَن يوصف بما وصفه الخمايسي لزيدان. ارتضى الخمايسي الإقلاع عن الإبداع مبكرا، ووضع نفسه في صف “الشو”، ولم ينشغل بذاته كما أمره صحيح الدين الذي يفتخر بالانتساب إليه، وأصر على ليّ سياقات الكلام والغمز واللمز ومخاصمة الجمال إلى لا رجعة. وإذا كان الرجل قد أهدر وقتا طويلا في كتابة نحو عشرين ألف كلمة في 132 صفحة للنيل من زيدان بلا سبب، فإن شلال المعارك الزائفة قد جرفه ليهدر المزيد من الوقت في كتاب آخر يقوم حاليا بكتابته للنيل من الكاتب اللامع خالد منتصر. تلك مأساة المقلعين عن الإبداع في بلادنا العربية، وتدعو للأسى وتذكرنا بمعارك هوائية سابقة أبى المبدعون العظام من جيل الرواد الانجرار إليها. صمت محفوظ حكى لي صديق صحافي مخضرم طُلب إليه قبل 32 عاما أن يشارك في تغطية فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل من خلال استطلاع آراء الأدباء حول ذلك، وذكر الزميل أنه تحاور مع أكثر من كاتب وأديب قاموا جميعا بتهنئة نجيب محفوظ بالجائزة. ثم فوجئ بيوسف إدريس تحديدا يُهون من الجائزة لدرجة تصويره لفوز ابن بلده بـ”مؤامرة تقف الصهيونية خلفها”، قبل أن يستدرك في الهجوم على محفوظ ووصفه بأنه “أقل من الطبيعي، وشخص مهادن لإسرائيل”، وغيرها من الأوصاف غير اللائقة. ونشر الزميل ما قاله إدريس في ذلك الوقت سعيا وراء الإثارة الصحافية، فما كان من نجيب محفوظ إلا أن التزم الصمت ولم يرد. كان الرجل يدرك أنه أكبر من الانجرار لمعركة هامشية لا تُسمن ولا تُغني من جوع، وتُسيئ للأدباء بشكل عام، وكان يتعامل مع الأمر باعتباره مبدعا، مهمته الأولى رسم الجمال وإسعاد الناس، واستغلال كل لحظة في عمره من أجل مهمته العظمى وهي صناعة المتعة. وحكى الكاتب محمد سلماوي في كتابه “يوما أو بعض يوم” الصادر كسيرة ذاتية له أنه كان جالسا إلى جوار نجيب محفوظ في الأهرام بعد فترة من هدوء عاصفة نوبل، واتصل يوسف إدريس بمحفوظ، وقال له “لا تصدق ما ينسب لي من كلام يحمل أي إساءة لك.. فأنا أحترمك وأقدرك”. ورد محفوظ المعروف بتسامحه الجم “أنا لم أسمع أي شيء منسوب لك يحمل إساءة لي”.. وشكره بذوق شديد.

مشاركة :