معركة الإطاحة بفايز السراج من صدارة المشهد السياسي في غرب البلاد، انطلقت فعلا، فالمهندس المعماري الذي ينحدر من أسرة عريقة ذات أصول عثمانلية بالعاصمة، والذي لم يكن له أي نشاط سياسي قبل 2011، وقبل أن يحاول استعادة بعض من تاريخ والده الذي كان ناشطا في حزب المؤتمر بزعامة المناضل بشير السعداوي، هو اليوم في عين العاصفة؛ انقلب عليه أقرب المقربين منه نائبه الأولى، أحمد معيتيق، داعيا إلى التظاهر ضده وضد دكتاتوريته. ونائبه الآخر، عبدالسلام كاجمان، انتقد تفرده بالقرارات. وتزعم وزير داخليته المفوض، فتحي باشاغا، حملة الانقلاب عليه. قبل ذلك كان أعضاء المجلس الرئاسي موسى الكوني، وعلي القطراني، وعمر الأسود، وفتحي المجبري، قد انفضوا عنه منتقدين فشله في إدارة شؤون البلاد وتنفيذ اتفاق الصخيرات، وميليشيات مصراتة تتجه للانقضاض على بقايا حكمه المتهالك، بعضها لأسباب محلية والبعض الأخر لأسباب عقائدية تتعلق بإقامة الدولة الدينية المنشودة، والمفتي المعزول الصادق الغرياني، والداعية القريب عبدالباسط غويلة، يدعوان من إسطنبول إلى الثورة عليه وتشكيل ما يعتبرونها حكومة الثوار. جهاز مخابرات الوفاق أبلغ السراج بأن هناك مؤامرة تحاك ضده من جهات داخلية وخارجية، وذلك في محاولة لتفسير الدعوات التي ارتفعت فجأة تدعو الشعب المظلوم والمحروم والمهموم والمأزوم للخروج إلى الساحات والميادين للتظاهر ضده. بالمقابل يخرج آمر المنطقة العسكرية في طرابلس، عبدالباسط مروان، لينعت الداعين للإطاحة بالسراج بالفئة الضالة والمعطّلة، ويهدد المتظاهرين بالتصدي لهم بقبضة من حديد، هنا يتجه معيتيق وكاجمان بأمر للنائب العام الذي لا أحد يعرف هويته، وإنما فقط هناك ما يسمى بمدير مكتب التحقيقات بمكتب النائب العام وهو الصديق الصور، للتحقيق مع مروان بسبب تصريحاته المتضامنة مع السراج. الوضع ينذر بانفجار كبير، ميليشيا الصمود التي تعتبر الأكبر من نوعها في مصراتة بقيادة صلاح بادي تعلن أن لا فرق بين السراج وحفتر، وإن كان الوضع في المنطقة الغربية تغير بعد انسحاب الجيش، هذا على الأقل ما جاء على لسان أحد أبرز قيادييها أحمد بن عمران، الذي أكد أن ميليشيات الإسلام السياسي ستتجه لفرض الدولة الدينية وتطبيق الشريعة، هذا الأمر لن يكون بعيد المدى، هناك خطوات تتقدم في هذا الاتجاه، النسخة الثانية من “فجر ليبيا” يتم التجهيز لها، والأتراك والقطريون ليسوا بعيدين عنها. في الأثناء، تخرج ما تسمى بقوة حماية طرابلس التي تتكون من تسع ميليشيات بالعاصمة، لتتهم جماعة الإخوان بأنها ورم ينخر جسد البلاد، وأنها فئة ضالة مستمرة في نهجها المتمثل في اصطناع الأزمات، لكن الإخوان الذين يأتمرون بأوامر تركيا وقطر وباتوا يستقوون بمرتزقة أردوغان لا يهتمون كثيرا بمثل هذا الكلام. هم قلة يحسبون بالمئات لا أكثر، لا شرعية شعبية لهم في الشارع، يمكن القول أنهم منبوذون من عموم الليبيين، ولكنهم يتحركون في الغرف المظلمة مدعومين بالفاسدين من رجال الأعمال والمطلوبين للعدالة من الإرهابيين وأمراء الحرب والانتهازيين من السياسيين إضافة إلى الجهات الخارجية الطامعة في ثروة الليبيين والتي تعول كثيرا على لا وطنية الإخوان. والجماعة تتولى التنسيق حاليا مع فلول حليفتها الجماعة المقاتلة على فرض، محمود بن رجب، رئيسا لجهاز الحرس الوطني الذي يجري الإعداد لتشكيله من الميليشيات العقائدية، وخاصة تلك المنحدرة من مصراتة والزاوية، في محاولة للتلاعب بمخرجات مؤتمر برلين والضحك على ذقون الأميركان والأوروبيين: تريدون حل الميليشيات، سنحلها وندمج عناصرها المحسوبة علينا في جهاز الحرس الوطني. هناك صراع قائم بقوة على أمرين مهمين وهما صدارة القرار السياسي وصدارة القرار المالي والاقتصادي، وهاتان الصدارتان يسيطر عليهما حاليا فايز السراج، في ظل غيمة سوداء من الفساد تحيط بها من كل الجهات. ولكن، ليس كل ما يأتي من مصراتة سيء، هناك دعوات من بعض الأطراف، كأحمد معيتيق، يمكن البناء عليها في مواجهة الممارسات غير المشروعة للمجلس الرئاسي، خصوصا عندما ننظر إلى معاناة الشعب حيث لا ماء ولا كهرباء ولا سيولة ولا رواتب في مواعيدها ولا خدمات تستحق الاحترام. كورونا يضرب بقوة والقمامة تملأ الشوارع والانفلات الأمني سيد الموقف، والمرتزقة الأجانب يصولون ويجولون في ديار الليبيين، والحل السياسي معطل، والثروة في مهب العاصفة. أي تحرك شعبي في غرب البلاد سيكون له ما يبرره، عندما تجوع الشعوب وتعطش وتعرى وتتهدد صحتها وينهار غطاؤها الأمني وتفقد كرامتها الوطنية، لن تكون في حاجة إلى من يحرضها على الانتفاض، وهذه الدوافع موجودة وبقوة لدى الليبيين وخاصة في مدينة كطرابلس. لكن بالمقابل، على السيد السراج وبدل أن يتهم المحتجين بالتآمر، أن يدرك أن دوره قد انتهى، كان يمكن أن يغادر منصبه في صورة مشرّفة بعد النجاح في تحقيق مخرجات اتفاق الصخيرات، وإذا فشل في ذلك كان يمكنه الخروج بشكل كريم بعد تنفيذ اتفاقيات باريس وباليرمو وأبوظبي مع المشير حفتر. السراج اختار أن يتمسك بالكرسي والمصالح، معتمدا على سياسة الاعتمادات المالية مع الميليشيات وأمراء الحرب، والترضيات غير المحسوبة للإخوان والتي وصلت به أخيرا إلى دخول قائمة من فتحوا أبواب عاصمتهم للاحتلال الأجنبي والمرتزقة العابرين للقارات قصد الاستقواء بهم على أبناء بلده. ما الذي حققه السراج بعد كل هذا؟ أغلب مساعديه والدائرين في فلكه قرروا التخلص منه، لا يمكن أن نعتقد للحظة واحدة أن الأتراك والقطريين والإخوان غير داعمين لمشروع الانقلاب عليه، مخابراته نفسها قالت إن جهات خارجية متورطة في الموضوع، بعض القوى المحسوبة عليه تعرف أن صفحته ستطوى قريبا بالشكل الذي سيختاره لنفسه. أردوغان يريد للحكم أن يكون بأيدي مصراتة التي يعتبرها ولايته الثامنة والثمانين، وأغلب الفاعلين حاليا من رجال السياسة والاقتصاد وأمراء الحرب وزعماء الإرهاب ودعاة الليبرالية ورجال الأعمال وقادة الرأي هم من مصراتة، في تلك المدينة هناك الكثير من التناقضات التي تجعلها امتدادا لما يدور في ظل حكم أردوغان. على من سيعول السراج لمواجهة قرار الإطاحة به؟ بالتأكيد أنه لن يجد غير ميليشيات طرابلس المتهالكة التي لا يرغب فيها قادتها إلا في ملاحقة استثماراتهم الضخمة في الخارج بعد سنوات النهب والسلب لقوت الليبيين، أما المرتزقة في معسكرات كاليرموك وسيدي بلال فلن يقفوا إلى جانبه، بل سينفذون أوامر من جاء بهم إلى هناك. متى سيطاح بالسراج؟ الموضوع مسألة وقت، ولكن القرار صدر، عليه أن يدرك أنه بات جزءا من المشكل ولن يكون جزءا من الحل، أردوغان لديه خيول أخرى سيراهن عليها خلال المرحلة القادمة، وأمير قطر متخصص في هذا المجال.
مشاركة :