عندما يتعرّض فرد أمريكي للقتل أو الأذى فإن الانتقام يكون أضعافًا مضاعفة دون حد حسابي صفحة من التاريخ تروي لنا قصة سلطان متجبر، مع إنسان حكيم؛ كدأب السلاطين المتجبرين، كان هذا السلطان يهاب الإنسان الحكيم، فكان بين حين وآخر يأمر بإحضاره إلى مجلسه العامر بكبار رجالات السلطنة والنخبة من الرعية وقلة من الشعراء المتزلفين وبعض من تنابلة السلطان. كان السلطان يتعمد إهانة الإنسان الحكيم أمام الحضور بغية التقليل من شأنه، أملاً في شل تأثير الحكيم على عامة الناس، وعامة الناس بفطرة البساطة تقدس القول الحكيم، وتنفر ممن يدنس سمعة الإنسان الحكيم. في أثناء إحدى مسرحيات التوهين والتحقير والحط من المكانة في نفوس الناس، كانت ذبابة تحوم وتطن وتزن حول رأس السلطان، فغضب السلطان وفقد أعصابه وتحركت أطرافه تتلاطم ورأسه في حركة جنونية، وقال بصرخة عالية مدوية: «لِمَ خلق الله الذبابة؟». صعق الحضور من تلك الصرخة المزلزلة والكلمات المرعبة وخيّم عليه صمت القبور، لكن الحكيم أعقب بعفوية البسطاء وجرأة الحكماء ونزعة المعلمين، غير عابئ بالتبعات، على شكوى السلطان بالقول: «ليذل به الجبابرة!»، فتجمد السلطان وارتعد الحضور. هذا المشهد انعكاس حي للصراع الأزلي بين السيف والكلمة. فإذا كان «السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ ... في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ»، حسب قول أبي تمام، فإن «الكلمة أعمق أثرًا من السيف في النفس بين الظلم والعدل». وهذا السلطان أمامه إنسان حكيم، من بني جنسه، يذله ويحتقره وما هو بقادر أن يذل ذبابة تنكد عليه جلسته السلطانية بل تغضبه وتجعله يفقد أعصابه، وتنهار هيبته وهو في عراك عبثي هزلي مع الذبابة، وهي ذبابة واحدة، فما بالك بجيش من الذباب؟! إن هذا السلطان قادر على أن يمحي من سطح الأرض ما يشاء من بني جنسه، ولكنه عاجز أمام مملكة الذباب والحشرات. وكان الزمان عهد السلطة المطلقة بيد السلطان وحده، لا سلطة تشريعية ولا سلطة تنفيذية ولا سلطة قضائية، بل سلطة مطلقة بيد الحاكم بأمر الله!!! منذ بدء الخليقة وهذه القصة تتكرر في أشكال متعددة وألوان مختلفة، وأرشيف التاريخ تتدفق إليه كل يوم قصص جديدة من ذات المعين ولكن برسم الزمان والمكان، فلكل زمان نَفَسَهُ ولكل مكان لونه. واليوم يعيش العالم وأمامه سلطة دولة عظمى متجبرة. هذه الدولة العظمى تتسابق مع الزمن وتتعارك مع الشعوب، وترى أن كامل الطبيعة بثرواتها ومقدراتها ملك لها، وأن بقية الشعوب خدم وأدوات لها. أمريكا، وهي بيت القصيد، لا تحكمها سلطة مطلقة، بل مؤسسات تنسق فيما ببنها مختلف السلطات؛ فهي دولة القانون والمؤسسات بالنسبة لشعبها، ولكن هذه الدولة، بكامل مـؤسساتها، تتصرف دوليًا، مع بقية الدول والشعوب، بروحية ومنهجية السلطة المطلقة، أي الدولة الإمبراطورية؛ تفعل ما تشاء وأينما تشاء، تقتل وتدمر، تكذب وتنهب، تهدد وتبتز، تستغل رياح الدين وتستعين بأدوات الشيطان، شأنها شأن جميع الإمبراطوريات السابقة دون استثناء. ومفهوم الإمبراطورية، بالكلام المختصر المفيد، هو استغلال شعب الدولة الإمبراطورية ونهب ثروات الشعوب الأخرى. في طول التاريخ وعرضه وعمقه، كل الإمبراطوريات كانت تستغل شعوبها وتنهب الشعوب الأخرى، ولم يبقَ للدولة الإمبراطورية إلا أن تسمي نفسها «مجمع الآلهة»، مثل مجمع آلهة الإغريق في قمة جبل أوليمپوس. السلطة المطلقة، كانت سلطة سلطان فرد أو سلطة مؤسسات إمبراطورية، تتشبه بالآلهة، لأنها ترى نفسها فوق القانون وخارج دائرة الأخلاق. إمبراطورية العصر انتقمت من اليابان في الحرب العالمية الثانية بمجزرة نووية كان ضحاياها ما يقارب مائتي مدني، وفي لمح البصر، مقابل 2400 قتيل في قاعدة بيرل هاربر العسكرية من قبل الطيران الياباني. الغضب الأمريكي من اليابان كلف اليابان مائتي ألف مواطن إضافة إلى التدمير الذي جعل من مدينتين ترابًا مسطحًا مع بسطة الأرض. ومقابل 3000 قتيل في هجمة الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 على البرجين، فتحت أمريكا أبواب جهنم على دول الشرق الأوسط وأفغانستان، ومازالت تلك الأبواب مشرعة، والضحايا، بمختلف الأصناف، بالملايين؛ دول سقطت، وأنظمة حكم تغيرت، واقتصاديات انهارت، ومجتمعات تخلخلت، وسياسات ارتبكت، ومازال حبل الانتقام على غابر الأيام. عندما يتعرض فرد أمريكي للقتل أو الأذى، فإن الانتقام يكون أضعافًا مضاعفة دون حد حسابي، ولا حاجة لذكر الحد الأخلاقي. وهذا النمط الإمبراطوري من الغضب والانتقام يختصر على الإنسان فقط. منذ بداية هذا العام والعالم يتعرض لهجمة فيروسية قوية، وقد قتلت هذه الهجمة الفيروسية إلى اليوم أكثر من مائة وخمسين ألف أمريكي، والإمبراطورية الأمريكية في حالة غضب، ولكنه غضب العاجز عن الانتقام، وتعبر عن عجز غضبها بسيل من الاتهامات لدول كبرى، وتستر عورة غضبها العاجز بتحرشات عسكرية في البحر وفي الجو. عندما قتل اليابانيون 2400 أمريكي، غضبت أمريكا وقتلت أكثر من ثمانين ضعفًا من اليابانيين، وقتلت مدنيين مقابل عسكريين، وعندما قتلت جماعة طالبان 3000 أمريكي وغير أمريكي، غضبت أمريكا وقتلت وشردت الملايين، ومازالت عمليات الانتقام جارية منذ 2001. ولكن هذه الإمبراطورية المتعجرفة تقف عاجزة ومرتبكة ومحرجة أمام فيروس ينهش في غطرستها ويذل كرامتها، مثلما فعلت الذبابة في السلطان. تتجبر الإمبراطوريات وتتغطرس على بني الإنسان، ولكنها تقف عاجزة ذليلة أمام أصغر وأحقر كائنات الطبيعة، وكأن الطبيعة تستهزئ من الإنسان، وتعطيه بالمقابل درسًا في «القوة ومن هو الأقوى»، حتى يتعلم الأدب والأخلاق ويلتزم بفضيلة العدل في تعامله مع نفسه.. ولكن، هل يتعلم الإنسان الدرس في مدرسة الطبيعة من مدرّسين قساة من مملكة الحشرات والفيروسات؟!!
مشاركة :