أصابت كارثة انفجار مرفأ بيروت الذي هزّ لبنان مؤخرا الجميع بالصدمة وعدم القدرة على تقبّل ما حدث. ووسط هول الدمار وقوة الانفجار يعاني أطفال كثيرون عاشوا الحادثة، سواء عن قرب وتسببت لهم في جروح مختلفة أو استمعوا فقط إلى الانفجار العنيف، من فزع ورعب لا حصر لهما جعلت الخبراء يحذرون من وقع هذه الحادثة وما انجر عنها من صدمات على نفسياتهم. بيروت - كانت هبة (35 عاما) تجلس في محلة رأس النبع في غرب بيروت مع والدتها وطفلها (6 سنوات) ورضيعتها (21 يوما) في غرفة الجلوس بمنزلها لحظة الانفجار. وتقول لوكالة فرانس برس مستعيدة ما جرى “شعرت وكأن زجاج المنزل يدور حولنا”. ولحظة دويّ انفجار المرفأ وانهيار واجهة منزلها، قالت هبة إن طفلها صرخ لدى رؤيته الدماء تسيل من قدميه “أمي، لا أريد أن أموت”. وفي بيروت المنكوبة، ابن هبة مثله مثل أطفال كثيرين في بيروت لا يزالون تحت الصدمة. وتسبّب الانفجار بمقتل أكثر من 160 شخصا وإصابة أكثر من 6 آلاف آخرين وتشريد نحو 300 ألف من منازلهم، نحو مئة ألف منهم أطفال، وفق منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” التي قالت إن الناجين “يعانون من صدمة نفسية”. وتجمّد طفل هبة في مكانه لثوان ولم يقو على التحرك، وحين رأى الدماء تسيل من قدميه جراء الزجاج، أصابته صدمة وبدأ يصرخ “ماما، لا أريد أن أموت” باللغة الفرنسية قبل أن يلقي نفسه بين ذراعي والدته وهو يرتجف. وتمالكت هبة التي أصيبت بدورها، أعصابها، وحاولت تهدئة طفلها بعدما تيقّنت أن إصابتهما طفيفة. وتضيف “أجابني ‘ما هذه الحياة؟ كورونا وانفجار؟”. وعندما التفتت إلى ابنتها، رأت أنها تتنفس، لكن الطفلة “بدت وكأنها غابت عن الوعي تماما”، على حد قولها. واستغرق الأمر عشرين دقيقة حتى “بدأت في التفاعل معي أو حتى البكاء”. ومن شدة الصدمة، جفّ الحليب من صدر هبة قبل أن يعود بكميات قليلة جدا، ما أجبرها على استخدام الحليب الجاف لإطعام طفلتها. ومنذ الانفجار، تُبعد هبة ابنها عن شاشات التلفزيون التي تبث منذ أسبوع دون توقف صور الانفجار وأخباره. لكنه منذ ذلك اليوم، لا يزال “يقفز من مكانه كلما سمع صوتا”. وتضيف “لا أعرف ما إذا كان يخبئ شيئا داخله، لكنني أقضي الكثير من الوقت معه، لأسمعه يتكلم عندما يريد ذلك”. وبين ضحايا الانفجار، طفل أسترالي في الثانية من عمره وطفلة لبنانية في الثالثة قالت والدتها الثكلى بعد الانفجار لمحطة تلفزيونية، وقد غطت آثار الجروح وجهها، “أود أن أعتذر من ألكسندرا، لأنني لم أخرج بها من لبنان”. وتداول مستخدمون لمواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو عديدة للحظة وقوع الانفجار. ويظهر في أحدها دخان يتصاعد جراء انفجار أول في المرفأ، ويُسمع في الخلفية طفل يردد وكأنه يلهو “انفجار، انفجار”، قبل أن يقول بعد دوي الانفجار الثاني بالإنجليزية العبارة نفسها “أمي، لا أريد أن أموت”. وشاهد مراسلو وكالة فرانس برس في المستشفيات أطفالا كست الدماء وجوههم وثيابهم. وفي مستشفى أوتيل ديو بشرق العاصمة، كانت امرأة بعد وقت قصير من وقوع الانفجار، تحمل طفلتين غطت الدماء وجهيهما، وبدتا مذعورتين على غرار العشرات في المكان، صامتتين وفي حالة صدمة. وشددت منظمة “سايف ذي تشيلدرن” في بيان على ضرورة أن تكون صحة الأطفال النفسية “أولوية”، مشيرة إلى أنه “من دون وجود الدعم المناسب، ستكون النتائج على الأطفال طويلة الأمد”. وقالت آن صوفي ديبدال من المنظمة “التأثير على الأطفال قد يكون عميقا جدا، كون الطفل سيحاول أن يفهم ما حصل”. وقد يذهب الأمر ببعض الأطفال، خصوصا الصغار من أصحاب الخيال الخصب، إلى حدّ إلقاء اللوم على أنفسهم، معتقدين أن ما كانوا يفعلونه قد تسبّب بالانفجار. أما الأكبر سنا بقليل فقد يشعرون بالذنب “تجاه حزن وغضب” أهاليهم. وأشارت المنظمة إلى أن الكثير من الأطفال في لبنان كانوا أساسا عرضة للتوتر نتيجة الأزمات المتلاحقة في البلاد التي دفعت “أكثر من نصف مليون طفل في بيروت إلى الكفاح من أجل الحياة أو إلى الجوع”. وأضيفت إلى كل هذا تداعيات الحجر المنزلي مع تفشي فايروس كورونا المستجد. وتقول المعالجة النفسية صوفيا معماري “هناك أطفال سيعانون من قلق، الأصوات العالية قد تجعلهم يخشون من أن تتكرّر الحادثة، وقد يخشون الانفصال عن أهلهم لدرجة أنهم قد يرفضون دخول الحمام لوحدهم”. ونبّهت معماري إلى أن لقلق الأطفال، أوجهاً كثيرة، منها الكوابيس ليلا أو عدم الكلام أو العزلة، “لأن أسئلة كثيرة تجول ببالهم”، مؤكدة “لا يجب إجبارهم على قول شيء. يجب أن نتحدث عن الموضوع، ونفتح لهم المجال للتكلم عنه حين يشاؤون”. ويجدر أن يسمع الطفل من والديه، وفق معماري، “أنهما خائفان أيضا، ليشعر أن بإمكانه أن يخاف ولمساعدته في التعبير عن مشاعر الخوف والقلق والحزن”. كما يجب على الأهل المسارعة إلى طلب مساعدة مختص إذا طالت عزلة الطفل أو عدم رغبته بالكلام أكثر من أسبوعين. وبعد وقوع الانفجار، أجرت نورا (34 عاما) بحثا سريعا عما يجب أن تفعله وأن تقوله لطفليها البالغين من العمر أربع وثلاث سنوات. وتقول إنها عبرت لهما عن خوفها الشديد ووصفت لهما بدقة ما شعرت به، فتجاوب معها الطفل الأكبر قائلا “كان انفجارا كبيرا”. أما الأصغر فلم يقل شيئا في حينه. وفي اليوم التالي، استيقظ صباحا وهمس لأمه “لقد خفت كثيرا”. وأشارت اليونيسيف إلى أنه تم إنشاء برنامج حوالات نقدية طارئة لمساعدة الأسر النازحة بسبب فقدان منازلها، فيما تقوم بتقديم الدعم النفسي والاجتماعي لمساعدة الأطفال على التعامل مع الفاجعة والصدمة النفسية. وعلى إثر الانفجار قالت نائبة ممثل اليونيسيف في لبنان فيوليت سبيك-وارنري إنه “حسب آخر المعلومات فقد انفصل بعض الأطفال عن أفراد عائلاتهم، الذين لا يزال بعضهم مفقودا”. وتابعت “تأثر ما لا يقل عن 12 من مرافق الرعاية الصحية الأولية ومراكز الأمومة والتلقيح والأطفال حديثي الولادة في بيروت، حيث كانت تخدم هذه المراكز حوالي 120 ألف شخص”. وأكد أخصائيو علم النفس أن الأطفال يتعرضون مثل البالغين إلى مواقف أو تجارب حياتية مخيفة وخطرة مثل حوادث الطرقات والنزاعات المسلحة والتفجيرات، والإصابات البليغة، والجرائم، وكلها تؤدي إلى اضطرابات نفسية مختلفة نتيجة للصدمة مثل اضطرابات التفكير والسلوك والعواطف. وأشاروا إلى أن استجابات الأطفال للصدمات النفسية مختلفة، موضحين أنه مباشرة مع الصدمة يجد الطفل صعوبة في النوم، ويرى كوابيس، وأحيـانا لا تظهر الأعـراض مباشـرة بعد الصدمة فقد تظهر بعد أيام أو أسابيع. وقد يعاني الطفل من الكآبة والقلق النفسي وقد تسوء حالته وتتدهور إذا عاش حدثا شديد الخطورة وخاصة إذا أصيب إصابة بليغة ينتج عنها خوف شديد ورعب وفزع. وأوضحت المعالجة النفسية والأستاذة الجامعية الدكتورة كارول سعادة لوكالة الأنباء “المركزية” أن “كلّ شخص يتعرّض خلال حياته لصدمات معيّنة، ولتجارب تكون مخيفة أحيانا وخارجة عن سيطرته، لكن ما تعرّض له اللبنانيون وتحديدا سكّان بيروت وضواحيها يعتبر من أقسى وأصعب الصدمات الممكن أن يتعرّض لها الإنسان حيث تحمل في طياتها الخوف، الرعب، الموت، المرض، الوجع، والقلق.. لذا، الأكيد أن الصدمة لها وطـأة نفسية كبيرة جدّا على من كان موجودا أو قريبا من مكان الانفجار ومن فقد فردا عزيزا على قلبه وكذلك على جميع اللبنانيين”. وأشارت إلى أن “الأعراض التي تم ذكرها ممكن أن تظهر لدى الأطفال أيضا، إلى جانب أخرى مثل الحركة المفرطة الزائدة ، التوتر، قلّة التركيز، البكاء الدائم، العجز عن التعبير عن الانفعال والخوف في حين يمكن للأهل أن يظنّوا أن أطفالهم لم يتأثّروا بشكل كبير لكن يظهر ذلك من خلال عوارض خفية”. وتابعت “من هنا ضرورة التعبير والكلام عن الموضوع ومساعدتهم على ذلك بكلّ الطرق الممكنة، وحتى القرب الجسدي مهم جدّا، فلو طلب الطفل البقاء دائما مع أهله والنوم إلى جانبهم يجب الاستجابة لحاجته مع عدم تعريضه لأي شيء مرتبط بالحدث.. والمحافظة قدر الإمكان على الروتين المعتاد عليه”.
مشاركة :