حينما قرر الأستاذ الكبير تركي السديري بأن يريح كاهله من أثقال موقعه كرئيس لتحرير صحيفة الرياض الغراء بعد سنوات طِوال ورحلة شاقة وصعبة قدم فيها عصارة جهده وفكره وموهبته لهذه الصحيفة التي ارتبط بها روحياً ووجدانياً إلى درجة العشق فقد لازمته متاعب (السلطة الرابعة) أو كما يسمونها بالغرب (صاحبة الجلالة) على مدى أكثر من أربعة عقود إلا أنه الذي لم ينحنِ أو يفتر تحت أثقال ذلك الحمل حتى بعد أن قرر الابتعاد عن منصبه كرئيس للتحرير من دون تسقيط سياسي ومن دون أن يصرح بأي شيء سوى: ستجدونني دائماً في الرياض قلماً وموجهاً ومعبراً عن نبض الصحفي المسؤول والملتزم حتى آخر لحظة في العمر. وفي هذه العجالة فلست قطعاً بصدد الحديث عن أشهر التجارب الصحفية الخليجية نجاحاً وثباتاً في خدمة الحقيقة أو بصدد التطرق إلى ذلك الصدى الكبير والواسع الذي لقيه قرار استقالة الأستاذ تركي السديري من رئاسة تحرير صحيفة الرياض التي ما كان لها أن تتفوق على قريناتها الخليجية والعربية وأن تصل إلى ذلك المستوى الرفيع الذي يشار إليه اليوم بالبنان أكان ذلك من حيث الأداء المهني أو الحضور الإعلامي أو المنهجية المتزنة والموضوعية التي تتفرد بها من دون حنكة قيادية من الطراز الأول ولكنني من وجدت نفسي منبهراً بتجربة الرجل الذي قادته موهبته الفذة إلى احتراف الكتابة بالحبر على الكتابة بالدم وبالذات وهو من نجح في التأسيس لتجربة صحفية متميزة نجد أنفسنا نحن معشر الصحفيين بحاجة للتعلم من دروسها وخصوصيتها وأن نستخلص من تجارب أصحابها معاني التفاني والإخلاص والروح الإبداعية لهذه المهنة الإنسانية. فالحقيقة أن تجربة الأستاذ الكبير تركي السديري منذ ارتباطه المهني بالصحافة هي بكل المقاييس تجربة ثرية وغنية وتحمل في تفاصيلها العامرة بالعطاء رحلة مشهودة لصحفي فذّ قدم نفسه كمشروع ثم كمدرسة قبل أن يصبح عميداً للصحافة السعودية والخليجية وأن يمنحه الملك عبدالله بن عبدالعزيز لقب(ملك الصحافة) بعد أن ترك بصماته الواضحة في مجال العمل الإعلامي والصحفي في المنطقة عموماً وهو ما يدفع إلى السؤال: كيف نجح ذلك الشاب الذي دخل عالم الصحافة من بوابة الإعلام الرياضي أن يصل إلى هذه المكانة وأن يصبح قلمه أرفع من أي منصب حكومي وأن يغدو من خلال ذلك القلم شاهداً على الكثير من الأحداث التاريخية التي عاصرها وعاشها عن قرب؟ بما أتاح له أن يستشهد في كتاباته بذلك المخزون الذي بقي محفوراً في الذاكرة وكذا مكتبته في صحيفة الرياض التي لاشك وأنه من حرص على أن تصبح مكتبة لتوثيق الأحداث في الزمان والمكان. من نافلة القول أن العلاقة التي جمعتني بالأستاذ تركي السديري والتي تعود إلى ما قبل عقدين من الزمن قد مكنتني من التعرف على إجابات السؤال السالف الذكر ولربما أن من عاصروا مسيرة صحيفة الرياض الغراء قد أدركوا قبل غيرهم أن القفزات الهائلة التي شهدتها هذه الصحيفة إنما كانت ثمرة من ثمار الرؤية السديدة التي ترسخت في ذهنية الأستاذ تركي السديري والذي بدا في نهجه مؤمناً بأن الصحفي الملتزم بشرف الكلمة لا يمكن له أن يصبح فاعلاً حيوياً أو ما يطلق عليه لاعبو الشطرنج ب(غامبي) ما لم يجعل من انتصار بلاده على تحديات الواقع هدفاً مركزياً يجب الوصول إليه وليست هذه القناعة هي الوحيدة التي تميز بها الأستاذ تركي السديري أو تلك (الكاريزما) التي جعلت منه شخصاً يثير الإعجاب ويحظى باحترام خصومه قبل محبيه بل انه من تميز أيضاً بنظرته الثاقبة تجاه ما يتعلق بقواعد المهنة الصحفية ولذلك فهو من ظلّ يقاوم كل المظاهر المنفلتة التي تنحرف بقدسية المهنة وبالرسالة الإعلامية عن مضمونها الأخلاقي تحت مبرر الإثارة التي تخرج الإعلام من مساره فيتحول من مخاطبة العقل والروح إلى مخاطبة الغرائز والرغبات والنوازع. لقد عرفت الأستاذ تركي السديري متصالحاً مع نفسه وخالياً من العقد بل إنه من يجيد ترجمة المبادئ الأصيلة وليست المنتحلة أو الموضوعة على أرض الواقع وأنه من يمد جسور التواصل مع الجميع بكل رحابة صدر بما فيهم من لا يتفقون معه لقناعته من أن الناس قد يختلفون في الرأي والفكر والتوجهات إلا أن الاختلاف لا ينبغي له أن يتحول إلى خصومة ولذلك فهو من أسس لتجربة صحافية هي الأشهر اليوم على مستوى المنطقة لا يزال حتى اللحظة ينقش حروفها بحيوية ليرفع سقف التوقعات إلى مستوى عالٍ من الطموح الذي يحمله كهامة صحفية أكبر من جبل.
مشاركة :