تحدثنا في المقال السابق عن عدم وجود أي علاقة بين أسلمة الأتراك من جانب وأسلمة العرب والسوريين من جانب آخر، وتساءلنا عن الأسباب التي يمكن أن تفسر الظاهرة المذكورة. والحقيقة أن أحد الأسباب يتمثل في اختلاف تعريف (الأسلمة)، وبالتالي في تحديد مضمونها ومراحلها وأولوياتها، بل وحتى أهدافها النهائية، خاصة في مجال الممارسة السياسية. ذلك أن أهل التجربة التركية وصلوا مع امتداد تلك التجربة زمانياً، وتميزها نوعياً، إلى رؤية ومعايشة مستوىً مغاير من التحديات. وقد أفرزت هذه التحديات وتُفرز أسئلةً من الواضح أنها لم تُطرح بعد في أوساط الإسلاميين العرب والسوريين تحديداً (باستثناء بصيص أمل في التجربة التونسية). لهذا يبدو أحيانا حين تقترب من العمق أن أصحاب التجربة الأتراك يعيشون في عالم آخر لايمت بصلةٍ إلى مايعيشه أقرانهم العرب، رغم تشابه بعض التعابير والمفردات على المستوى النظري. فالأسلمة في الحالة التركية تكاد تكون مرادفاً آخر لمفهوم (الإصلاح) و(البناء) الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، بشكلٍ يؤكد على (العودة) إلى العصر والدخول في الزمن الراهن للعيش في (الحاضر) بدلاً من المحاولات المستمرة للهروب منه، إما إلى الماضي، أو إلى مستقبلٍ بعيد في (الآخرة) بداعي كون الحياة بكل مكوناتها (ابتلاءً) و(فتنةً) مامن سبيل للتعامل معهما إلا بشكلٍ عابر، تمهيداً لـ (خَلاصٍ) لن يأتي بغير انتهاء الوجود البشري الشخصي أو العام. والأسلمة في الحالة التركية تعني التعامل مع حاجات الناس وهمومهم وتطلعاتهم، وأن يحصل هذا بلغةهذا العصر وأدواته، وأن يُؤخذ بالاعتبار كل مافي العصر من حيوية وتغيير واختلاف وتناقض وتوازنات. بعيداً عن شعارات (المفاصلة) مع الواقع وإنكار حقائقه ومكوناته. بالمقابل، يؤكد التعريف الغالب لمحاولات (الأسلمة) السورية الراهنة ، إضافةً إلى تجميد الزمن، على محاصرة وتنميط الفعل البشري في قوالب محدّدة و محدودة من الممارسات. وهو مايجري بشكلٍ واضح في كثير من المناطق التي تُسيطر عليها فصائلُ إسلامية في سوريا بدرجاتٍ متفاوتة. ووفقاً لهذا التصور، يجب أن تسير الجماهير (خلف) الحركة التي تقود الفعل وتوجهه، وهي في وضعنا السوري. كما يجب أن يتم وفق قراءة الحركة وفهمها للدين وللعصر على حدّ سواء. بمعنى أن دور الجماهير من الفعل البشري يقتصر على الاستجابة والالتزام. وحين يتحقق هذا في أعلى درجاته تبلغ الأسلمة أوجها وتصل إلى تمامها. بالمقابل. يثق أهل التجربة التركية بالجماهير وبقدرتها هي على صناعة الحياة. لكنهم يدركون طبيعة دورهم لتحقيق ذلك الهدف. لهذا لايرون أي معنى لمحاولة قسر الملايين على تحقيق معايير أخلاقية معينة في ظل افتقاد مقومات الشعور بالكينونة الإنسانية على المستويين الثقافي والمادي. خاصة في مجتمع تعرّض على مدى عقود لظروف سياسية واقتصادية لم تساعد على ذلك.لايمكن بطبيعة الحال استيفاء الحديث عن تلك المقومات هنا. لكن المؤكد أن وجودها مستحيل في غياب قيم الحرية والعدل والمساواة وسيادة القانون. وفي غياب منظومة إدارية وقانونية تسمح بالحلم والطموح، وتفسح المجال لممارسة فعل بشري ولوجود تجربة إنسانية تسعى لتحقيق الحلم والطموح، مهما كانت احتمالات الخطأ والصواب في تلك التجربة. لسنا هنا إذا بإزاء حركات وأحزاب تقدم نفسها بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال على أنها (قيادة) لديها كل الإجابات.. وإنما على العكس، نحن بإزاء حزب قدّم نفسه على أنه يريد أن يكون (إدارة) للمجتمع تسعى لتمكينه من صناعة حاضره ومستقبله. لكنها إدارةٌ تدرك أن أسئلة الواقع كثيرةٌ وكبيرة. وأن من المستحيل الإجابة عليها إلا من خلال الفعل التراكمي للمجتمع بجميع مكوناته وشرائحه. وبالتالي، فإن دور الإدارة ينحصر في تحقيق الشروط التي تمكن المجتمع من الوصول إلى ذلك المراد عبر ممارسات وتجارب تتسع باتساع الكمون الهائل الموجود في الفعل البشري على مستوى الفرد والجماعة. إن دراسة الواقع التركي بشيء من المتابعة والمنهجية تُظهر حقاً حجم الاختلاف في تعريف مفهوم الأسلمة بين الحركات والأحزاب الموجودة في العالمين العربي والإسلامي. فخلال زيارة عمل أكاديمية لتركيا الأسبوع الماضي تصادف أن التقيت بأكاديمي إسلامي من إحدى الدول العربية. علمت من خلال الحوار أن النشاط الأكاديمي الذي يحضره الرجل كان الهدف الثاني لحضوره. في حين كانت الأولوية لمحاولة رؤية المرحلة التي وصلت إليها عملية (أسلمة) المجتمع التركي بعد سنتين من حكم حزب العدالة و التنمية. كانت هذه الزيارة الأولى للرجل و كان واضحاً تعاطفه مع التجربة التركية على الصعيد النظري لأسباب ثقافية و تاريخية معروفة. لكنه كان يبدو أيضاً متلهفاً جداً لرؤية أمثلة محددة كانت في ذهنه لنمط معين من (الأسلمة). وحيث أن هذا النمط كان يتمحور حول جملة من المؤشرات (الظاهرية)، فقد كانت خيبة أمل الرجل كبيرة. ويمكن القول أنها بدأت بمرحلة الدهشة وانتهت بمرحلة الصدمة الكاملة. كان من أكثر ماحيّره مثلاً استمرار وجود بعض المظاهر التي تتعلق بالأخلاق في المجتمع التركي مثل وجود الحانات والملاهي الليلية وما يلحق بها ويستتبعها من مظاهر.. من هنا، تساءل الرجل عن أصل مشروعية وجود حكومة (تدّعي أنها ذات توجه إسلامي) حسب قوله إذا لم تقم بالتعامل مع تلك المظاهر حسب التعاليم الإسلامية حتى الآن. بل إنه أكد أنه حتى لو حدثت تلك الخطوة حاليا فإنها ستكون متأخرة جداً لأن الواجب كان يقتضي أن تبدأ الحكومة بذلك منذ الأيام الأولى لها في الحكم. (هذا أقل مايمكن أن يفعلوه) حسب قول صاحبنا. والحقيقة أن هذا هو فعلا أقل مايمكن القيام به حسب منظري الإصلاح من الساسة الأتراك. ولهذا السبب بالتحديد فإنه قد يكون آخر ماتفكر به الحكومة. (لم يهدم الرسول الأصنام عند بعثته بالرسالة) قال لي أحد هؤلاء (بل إنه مضى يطوف حول الكعبة في وجود الأصنام بجانبها فترة طويلة) تابع الرجل. (لقد كان وجود الأصنام في الواقع تعبيرا عن وجودها في القلوب قبل ذلك. وبالتالي فقد كانت الاستراتيجية تقتضي هدم الأصنام في القلوب أولاً عبر تغيير ثقافة عَبَدة الأصنام. حتى إذا تحقق ذلك قاموا بهدم أصنامهم بأنفسهم دون أن يجبرهم أحد على تلك المهمة). تذكرت أنني قرأت مايشبه هذا الطرح من مثقف عربي إسلامي منذ عشرين عاما.. فهل يؤكد هذا حقيقة أن الإسلاميين الحركيين العرب لايقرؤون؟ أم أنها تؤكد حقيقة حرصهم على تجميد الزمان؟ تبدو الإجابة مؤلمة في الحالتين. waelmerza@hotmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (80) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :