طرحنا السؤال في المقال الماضي عن صورة الإسلام الذي نستقرئ أن يولد على الأرض السورية من مخاض ثورتها؟ ونُكمل فيما يلي طرح بعض ملامحه الرئيسة. إنه إسلامٌ متصالحٌ بشكلٍ كبير مع الحياة. متصالح مع قيم ومعاني التجديد والإبداع والابتكار، على كل مستوىً وفي كل مجال. لا مكان فيه لمن يتعامل مع العالم بعقلية الخوف من كل جديد، والحذر من كل طارىء، والرهبة من كل مختلف. لا يوجد فيه ذلك الرعبُ السائدُ عند البعض من الخلط بين الإبداع والابتداع. وليست القيودُ والشروطُ والموانعُ هي الأصلَ، وإنما الأصلُ الإباحة. لا تتمحور حياة المسلمين فيه إلى حدّ الهوس حول التفكير بالمُحرَّمات، ولا يجعلون هذا التفكير المدخل الأساسي لعلاقتهم بالإسلام، ولا مقياساً لتديُّنهم، ولا تنشغل عقولهم وكتبهم ونشاطاتهم الثقافية والاجتماعية بالوهم الذي يوحي بأن فعاليات الحياة البشرية المختلفة إنما هي مصائدُ شيطانيةُ كبرى، لا يمكن للإنسان أن يتعايش معها إلا بوجود واستمرار أقصى مشاعر التوجُّس والحذر والشك والخوف والريبة، في النفس وفي الآخرين، وفي متغيرات الواقع وأحداثه. إسلامٌ متصالح مع المرأة، يجعلها حاضرةً بقوة في كل مجال من مجالات الحياة. لا يُكتفى فيه برفع الشعارات التي تتحدث عن ضمان حقوق المرأة، ولا يَخاف من صياغة قوانينَ خاصة تحفظ تلك الحقوق، وتخلق الظروف المناسبة لتطوير مكانتها ودورها في الحياة بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ وصريحٍ ومستمر. يتجاوز التناقضات الموهومة ويفتح الأبواب لها مُشرعةً للمشاركة في بناء المجتمع وإعمار الحياة، دون أن يعني هذا فقدانها لخصوصيتها وهويتها والتزامها، أو يكون سبباً لشيوع الفساد والرذيلة، أو مدخلاً لتفكك الأسرة وضياعها. إسلامٌ متصالح مع الابتسامة والبهجة والفرح. لا يخاصمُ هذه المعاني ولا يرتعب من وجودها على تدينِ أهله، ولا من تَبعات ذلك في الدنيا ولا في الآخرة. ويمنحُ حامليه سماحةً كبيرة تؤكد أنهم يستحقون موقعاً مميزاً في الحياة المعاصرة، لأنهم يعرفون معنى هذه الحياة (الحاضرة) وقيمتها، ويؤكدون على ضرورة العيش فيها، وليس في التاريخ أو في عالم الغيب. إسلامٌ يدركُ أهلُهُ معنى أن يكون الهدفُ الأساس من إرسال نبيه (رحمةً للعالمين). بحيث يكون هاجسهم إظهار مقتضيات تلك الرحمة لكل الناس، وفي كل مجالٍ من مجالات الحياة. إسلامٌ ينفي كل دلالات الاصطفاء والتمييز القائمة على العِرق أو الجنس أو اللون أو الانتماء الاسمي المُجرد، في الدنيا وفي الآخرة. يُعلِّمُ معتنقيه أنهم لن يكونوا مُصطفين أخياراً لمجرد أنهم تسموا باسمه، وترتبط فيه الكرامة عند الله بدرجة التقوى والعِلم والعمل والنفع للناس. إسلامٌ يرفض ثقافة الاسترخاء والسكونية والتقليد والآبائية والكسل الذهني. فلا يحتفي بالمنع وسيلةً للحفاظ على القيم، ولا تختلط فيه مقاصد الشرع بأفهام البشر بالعادات والتقاليد دون ضابط. يحترمُ العقل ويؤكد على مركزيته في كرامة الإنسان وقيمته، ويدفع لاستعماله على الدوام تفاعلاً مع النص وفَهماً للدنيا، وصولاً إلى تقديم أوعيةٍ متجددة لتنزيل النص على الواقع بما يُحقق القيم والمقاصد، دون تواكلٍ دائم على الهياكل والقوالب التاريخية. إسلامٌ يؤكد على المعاني الثورية الكامنة في أن يبدأ وجودَهُ ومسيرته بكلمة (اقرأ). يحض على التفكير والتدبر والنظر والسؤال، ويحترم الثقافة والتخصص والعودة لأهل الذكر في كل المجالات، طريقاً لصناعة القرارات. إسلامٌ يدعو أتباعه، قبل الآخرين، إلى مواجهة التحدي الأخلاقي بالتواضع والإخلاص والصدق في القول والعمل. يؤكدُ على تجنب كل معاني ومظاهر الغرور والكبرياء والعُجب والاستعلاء على الآخرين، خاصةً حين يحصل هذا بدعوى الانتماء إليه. ويرفض أن تنقلب السياسة إلى براغماتية بأسوأ تجلياتها، يجوز معها الكذب والخداع والمكرُ ونكث العهود وشراءُ الولاءات والذمم، خاصةً حين يُمارسُ هذا بدعوى إعلاء كلمته في الأرض. إسلام لا يحاصر نفسه وأتباعه في فهمٍ طَهوري جهادي يُبسِّط دوره في الأرض، ويضعه بين احتمالين: فإما إقامة دولةٍ على صورة دولة الخلافة الأولى، وبكل التبسيط الكامن في ذهن أصحابها عن تلك الصورة، أو تقديم الروح رخيصةً دون ذلك. إسلامٌ تنضبط فيه العلاقة بين العاملين في السياسة باسمه وبين الجماهير.لا تسير الجماهير فيه خلف (قيادةٍ مُلهَمة) لديها كل الإجابات تقودُ الفِعلَ وتوجهه، ويكون هذا السير وفق قراءة تلك القيادة وفهمها للدين وللعصر على حدّ سواء. بمعنى ألا يقتصر فيه دور الجماهير، من الفعل البشري، على التبعية والاستجابة والالتزام، لأنه يرفض الوهم بأن الأسلمة تبلغُ أوجَها وتصلُ إلى تَمَامِها حين تتحقق تلك التبعية في أعلى درجاتها. إسلامٌ يدرك العاملون في السياسة باسمه أنهم يتطلعون، في أحسن الأحوال، لأن يكونوا جزءاً من (إدارة) للمجتمع تسعى لتمكينه من صناعة حاضره ومستقبله. لكنها إدارةٌ تدرك أن أسئلة الواقع كثيرةٌ وكبيرة، وأن من المستحيل الإجابة عليها إلا من خلال الفعل التراكمي للمجتمع بجميع مكوناته وشرائحه. تماماً كما تستحيل الإجابة عليها في غياب قيم الحرية والعدل والمساواة وسيادة القانون، وفي غياب منظومةٍ إدارية وقانونية تسمح بالحلم والطموح، وتفسح المجال لممارسة فعلٍ بشري، ولوجود تجربةٍ إنسانية تسعى لتحقيق الحلم والطموح، مهما كانت احتمالات الخطأ والصواب في تلك التجربة. هذا الإسلام الذي نتحدثُ عن ملامحه موجودٌ في القرآن وفي الصحيح من السنة النبوية، بل ويمكن استقراء أمثلة عليه في طيات التراث. وفي بلدٍ مثل سوريا، كان الأمر يحتاج لثورةٍ تُظهر ملامحه الأصيلة، وتمسح عن جبهته ما كان البعض يعتقد أنه غبارٌ تاريخي، ثم جاءت الثورة بكل ملابساتها لتُظهر أنه عملية (اختطاف) و(تغييب) كاملة الأركان. waelmerza@hotmail.com
مشاركة :