بدا أن الحارس السابق لريال مدريد إيكر كاسياس يوشك على البكاء، لكنه لم يذرف دمعة واحدة، خلال إلقائه بياناً أمام إعلاميين، لمناسبة رحيله عن النادي. لكن كان على كاسياس أن يذرف دموعاً كثيرة، ليس بسبب خروجه المُتوقَّع، بل بعد المقابلة – الفضيحة التي أجرتها صحيفة "إلموندو" الصادرة في العاصمة الإسبانية، في اليوم ذاته، مع عائلته، والتي عرّته، وأسرته الفاضلة، من ورقة التوت. لم تكتفِ والدة كاسياس في المقابلة باتهام رئيس ريال مدريد فلورنتينو بيريز بإرغام نجلها على مغادرة النادي، بل زعمت أنه يستفيد مالياً من صفقات انتقالات لاعبين، وتمنّت لو انضم إيكر إلى برشلونة وإدارييه الـ "جنتلمان"! أما والده فأعرب عن خشيته من أن ينتهي الأمر بابنه بتنظيف الحمامات! والمفارقة أن هذين الوالدين الحريصين على فلذة كبدهما، هما على خلاف معه ولا تواصل بينهم، بل إنهما أقرّا بأنه يدفع لهما شهرياً 9300 يورو لكي لا يتحدثا بالسوء عنه! إيكر الذي "ترغب" كل والدة إسبانية في أن يكون زوجاً لابنتها، يرشو والديه لكي "تصمت شهرزاد عن الكلام المباح"... فلورنتينو وريال مدريد يُخطئان أحياناً، لكنهما ضحية في حالة كاسياس الذي أمعن في تحويل نفسه "شهيداً"، إذ أصرّ على أن يواجه وسائل الإعلام وحيداً، وعلى ألا يُنظّم النادي له أي احتفال، ولو على شكل تكريم بسيط، قبل انتقاله إلى بورتو البرتغالي. وأرغم ذلك النادي على تنظيم وداع رسمي له، بموافقته، في اليوم التالي، حفظاً لماء الوجه، لكن الأمر زاد الطين بلّة. مشهد كاسياس "الشهيد" وحيداً بلا تكريم، أثار انتقادات من وسائل إعلام ومشجعين، حتى أن "ليكيب" الفرنسية التي قد تكون أبرز صحيفة رياضية في العالم، انتقدت النادي الأبيض. لكن كان على الصحيفة المرموقة أن تشرح لقرائها أسباباً موضوعية لخروج إيكر من ريال مدريد، لا أن تسقط في معالجة ديماغوجية لا تليق بمكانتها. كان عليها، مثلاً، أن تشرح كيف "أبدع" كاسياس في ابتزاز النادي لكي يوقّع مع بورتو الذي وصفته والدته بأنه "نادي درجة ثالثة"، وكيف تعمّد أن يظهر وحيداً أمام وسائل الإعلام، لتأليبها أكثر على نادٍ احتضنه منذ سنّ التاسعة، وأوصله إلى مجد لا يستحقه. ريال مدريد ليس مديناً لإيكر بشيء، لكن النادي اعتاد على نكران الجميل و"الأبناء الضالين"، مثل مدرب المنتخب الإسباني بتشنتي دِل بوسكي، أو القائد السابق للفريق مانويل سانشيس الذي لو تحقق حلمه في ترؤس النادي، لشكّل ذلك بداية نهايته! ويعجب المرء من الزلزال الذي أثاره رحيل كاسياس عن ريال مدريد، خصوصاً إذا قورن بالرحيل الهادئ والرزين للاعبين بارزين لا يقلّون شأناً عن إيكر، في نوادٍ أخرى، مثل أندريا بيرلو (يوفنتوس) وبيتر تشيك (تشلسي) وباستيان شفاينشتايغر (بايرن ميونيخ) الذين لم يرتكبوا "خطايا" إيكر الذي لم يدرك أنه لن يكون أبدياً في النادي، علماً أن قرار رحيله عن ريال مدريد اتخذه هو، لا النادي، بعدما أبلغه المدرب الجديد رافاييل بينيتيز أنه لن يكون أساسياً الموسم المقبل. كاسياس "تفنّن" في "تعذيب" النادي الذي تعامل معه بصبر شديد، على رغم أنه تأخر ثلاث سنوات على الأقل في الرحيل عنه. لا يخدعنّكم الوجه الطفولي لـ "القديس"، إذ لم ينفك عن طعن ريال مدريد، منذ حقبة المدرب البرتغالي جوزيه مورينيو الذي تآمر عليه إيكر، بالتكافل والتضامن مع زميله سيرخيو راموس، قبل أن ينضم إليهما البرتغاليان كريستيانو رونالدو وبيبي. ما زال صدى تهديد "قائدَي" الفريق، إيكر وسيرخيو، يتردد في مكتب فلورنتينو بيريز في مؤسسته للمقاولات ACS. "إما مورينيو وإما نحن"! فلورنتينو رجل عصامي بات أحد أبرز رجال الأعمال في إسبانيا وأكثرهم ثراءً، ويقود أضخم شركة للمقاولات في أوروبا تضم أكثر من مئة ألف موظف. لكنه يمتنع أحياناً، لأسباب لا يُفصح عنها، عن اتخاذ قرارات صارمة في إدارة ريال مدريد. يدرك مشجعو نادي العاصمة، أن رئيسه الأسطوري الراحل سانتياغو برنابيو كان طرد كاسياس وسيرخيو راموس من الفريق، في لحظة تفوّههما بتلك العبارة المشؤومة. لكن فلورنتينو الذي يُعتبر ثاني أبرز رئيس لريال مدريد في تاريخه، بعد برنابيو، آثر انتهاج سياسة الاحتواء، وتجنّب الصدام المباشر مع إيكر الذي كان يغرق في الحفرة التي حفرها للنادي. وُلِد كاسياس في مدريد، لكنه ليس مدريدياً. لو كان كذلك، لما ألّب جيشاً إعلامياً من أنصاره، متغلغلين في صحف وإذاعات وتلفزيونات، لشنّ حرب على مورينيو وزميله السابق الحارس دييغو لوبيز، لكي يستعيد مركزه في التشكيلة الأساسية للفريق، لا لكونه يستحق ذلك، بل لأن مقاعد البدلاء "لا تليق" بـ "القديس"، ولو لم يخوّله مستواه للعب مع نادٍ للهواة. كان المدرب البرتغالي أول من تنبّه إلى التراجع المخيف في مستوى إيكر، ولم يتردد في إخراجه من التشكيلة الأساسية، على رغم حملة عنيفة استهدفته وعائلته، لم تشهد إسبانيا مثيلاً لها في تاريخها، إذ وصفه إعلاميون بأنه "نازي"، ولم يترددوا في التحامل على نجله القاصر. بل أن حملة أصدقاء كاسياس طاولت كل لاعب لم ينضوِ تحت لوائه، مثل شابي ألونسو، وألفارو أربيلوا الذي اتهمته والدة إيكر بأنه تعمّد إصابته في يده! والأخير ضحك حين نعت إعلامي كان يجري معه مقابلة، مشجعين لريال مدريد ينتقدون الحارس، بأنهم "طالبانيون"... لكن لمَ تستميت غالبية وسائل الإعلام الإسبانية في الدفاع عن كاسياس، متجاهلة التراجع الواضح في مستواه، وأخطاءه التي كلّفت ريال مدريد ألقاباً؟ إنها علاقة منفعة متبادلة، إذ تبالغ تلك الوسائل في إبراز "إنجازات" وهمية لإيكر، وتتكتّم على هفواته وكبواته الكثيرة، في مقابل إطلاعها على أدق تفاصيل ما يحدث في غرف الملابس ومع المدرب. أما مجموعة "بريسا" الإعلامية، فجعلت كاسياس ألعوبة في يدها تستغلّها في حربها على ريال مدريد وفلورنتينو، ولتضليل مشجعيه والرأي العام. وكتب صحافي إسباني ساخراً: "أقرأ لإعلاميين، ويبدو وكأن كاسياس أسّس ريال مدريد، ولعِب مجاناً في صفوفه، ولم يُحرز (النادي) ألقاباً قبله". والمفارقة أن إعلاميين من أصدقاء كاسياس، لا يجدون حرجاً في الإقرار علناً بأنه يُسرّب لهم معلومات عن الفريق، مبررين الأمر بأن "الجميع يفعل ذلك"! تُرى، هل أقدم يوماً شابي هرنانديز، القائد السابق لبرشلونة، على أن يكشف للصحافة، التشكيلة الأساسية التي ستخوض مباراة ضد ريال مدريد؟ كاسياس لم يتوّرع مراراً عن فعل ذلك، ما أفاد النادي الكاتالوني الذي عمد أحياناً إلى تغيير تشكيلته الأساسية، أو تعديل خطته التكتيكية، بعد "وشاية" إيكر. صحيح أن البيان الذي أصدره ريال مدريد لإعلان رحيل كاسياس، وصفه بأنه "أفضل حارس مرمى في تاريخ النادي والكرة الإسبانية". لكن ذلك لا يعدو كونه مجاملة مفضوحة، ونكتة سمجة متهافتة، على رغم أن إيكر قدّم بين عامَي 1999 و2011، لمحات رائعة وكان أحياناً حاسماً في تأمين فوز الفريق أو تجنيبه الخسارة. لكن لا يمكن مقارنة إيكر بزميله السابق في المنتخب الإسباني فكتور فالديس الذي نال خمس مرات جائزة "زامورا" للحارس الذي تلقّت شباكه أقل عدد من الأهداف في الدوري الإسباني، في مقابل جائزة واحدة لـ "القديس". كما أن إيكر ليس أفضل من حراس جيله، مثل تشيك وجيانلويجي بوفون وأوليفر كان وإدوين فان در سار. ناهيك عن مقارنته بحراس عظماء أنجبتهم الملاعب الإسبانية، مثل ريكاردو زامورا الذي سُمِّيت الجائزة تيمناً به، أو خوسيه أنخل إيريبار أو لويس أركونادا، أو خوان ألونسو الذي أحرز كأس أوروبا لأبطال الدوري 5 مرات مع نادي العاصمة... ولا عجب في تراجع مستوى كاسياس، إذ إنه لم يكلّف نفسه يوماً عناء تحسين أدائه، من خلال تطوير نقاط قوته، مثل رد الفعل السريع والمواجهة المباشرة مع لاعبي الفرق المنافسة، ومعالجة نقاط ضعفه، مثل لعب الكرة بقدميه أو الكرات الهوائية. وحجته المضحكة أنه يتمتع بـ "موهبة منذ ولادته" تعفيه من تطوير نفسه، كأن اللاعب الموهوب لا يحتاج إلى تدريب وجهد وصقل. كسل كاسياس لا يضاهيه سوى تهرّبه المخجل من الدفاع عن النادي وزملائه، لدى تعرّضهم لحملات افتراء من وسائل الإعلام أو لاعبي نواد أخرى، مثل صديقه الحميم شافي هرنانديز الذي كان لا يفوّت فرصة للتهجّم على ريال مدريد ولاعبيه ومورينيو، مستخدماً أقذع الألفاظ. لكن الدفاع عن ريال مدريد لا يعني شيئاً لإيكر "المهموم" بـ "إنقاذ" المنتخب الإسباني، بعد توتر ميّز مباريات لريال مدريد وبرشلونة خلال حقبة المدرب البرتغالي، فاتصل بشافي "معتذراً" عن سلوك النادي الأبيض، وكوفئ الاثنان بجائزة "أمير أستورياس" التي يمنحها وليّ العهد في إسبانيا! ليت كاسياس كان حريصاً على مصالح النادي الذي دفع له 142 مليون يورو (مع احتساب الضرائب) منذ مشاركته أساسياً عام 1999، كما دافع عن مصالحه الشخصية، إذ طالب ريال مدريد بدفع راتب السنتين المتبقيتين من عقده، وعمولة مدير أعماله، ناهيك عن الفارق بين ما يدفعه له بورتو، وراتبه في مدريد، والضرائب في البرتغال! هكذا كافأ إيكر نادياً رعاه ربع قرن، بجشعٍ نادر وحقد دفين متلبّس برداء "المدريدية" الكاذبة. يعتقد بعضهم بأن عبارة "روما لا تدفع للخونة" هي مجرد أسطورة، لكنها تنطبق معكوسة على كاسياس. مدريد دفعت لـ "الخائن"!
مشاركة :