إذا كان فرويد قد اتجه للأدب ليصف الأحداث الصادمة فهذا لأن الأدب مثل التحليل النفسي كلاهما يهتمان بالعلاقات المعقدة بين معرفة الشيء وعدم معرفته. لذا نجد هناك ربط كبير بين الأدب ونظرية الصدمة بسبب أن الأول قادر على استيعاب جميع أشكال القهر الإنساني أكثر مما لو تحدثنا عنها، بأشكال كتابية مغايرة. فلو تحدثنا عن الصدمة بشكل قانوني لاحتجنا فعليا إلى أدلة ملموسة. لأن الأدب ببساطة يساعدنا على قول ما لا يمكن قوله بسلاسة في بقية الحقول العلمية بسبب عدم اشتراط مطابقته للواقع، فقضية التخييل محرك من محركات النص الأدبي. وهو ما تم استشعاره من نظرية الصدمة في الدراسات الأدبية الغربية فمن خلال نشر النقاد العديد من الأبحاث حول الصدمة من مثل اكتشافات في الذاكرة لكاثي كروث والعديد من أبحاثها وأبحاث غيرها، تبلورت نظرية الصدمة. (انظر على سبيل المثال: كاثي كاروث التي لديها العديد من الدراسات المهمة في الحقل مثل: ( الخبرة غيرالمدعاة: الصدمة والسرد والتاريخ Unclaimed Experience: Trauma، Narrative، and History)، (Trauma: Exploration in Memory الصدمة: اكتشاف في الذاكرة) (Listening to Trauma: Conversations with Leaders in the Theory & Treament of Catastrophic Experienc الاستماع إلى الصدمة: حوارات مع مؤسسي النظرية وعلاج التجربة الكارثية). كاثي كارو منذ ذلك الحين قام عدد من النقاد المتخصصين بتطبيق نظرية الصدمة في أبحاثهم عن اليهود الناجين من محرقة أوروبا منذ الهولوكوست وعن غيرهم من المتعرضين للصدمات كالحالة الفلسطينية وغيرها. وهذا يقودنا إلى تأمل نصوص الصدمة في الأدب العربي الحافل بها أخيراً بعد الربيع العربي، وما قبله من مآسٍ جمعية شهدتها الأمة العربية. بناء على توافر العديد من النماذج الإبداعية أرى أن على النقد العربي التوجه لهذه النظرية في قراءة أدب الصدمة التي تتوافر لدينا نماذج متعددة لقراءة مظاهرها، مع التأكيد على وجود فعلي لعروض بسيطة لحالات الصدمة من الأدباء دون أن يحدث التفات جاد منا لما هو موجود بالأساس و لم نحلله بأدوات إجرائية تساندنا على فهم الظاهرة الإبداعية نظريا وتطبيقيا. لو التفتنا لما لدينا من حروب ونكبات متوالية في تاريخ العرب القديم والجديد، لوجدنا أنها، أي نظرية الصدمة، نظرية مهمة تفسر لنا مثلا ما يحدث في النكبات وأحداث الحياة الأكثر مأسوية من مثل ما يحدث على الصعيد العربي كالنكبة الفلسطينية وتأثيرها على الفلسطينيين في الداخل والخارج، و لقد جسد ذلك في أدب النكبة الفلسطينية بشكل وافٍ جدا. وما يحدث في سورية الآن من حرب طائفية بغيضة، و في الجزائر سرديات عدة تطرقت لترهيب المواطنين بسبب ادعاء لتطبيق إسلامي باطنه أيديولوجي في فترة الإرهاب. وصدمة الغزو العراقي على الشعبين الكويتي والعراقي، التي تم تمثيلها في الأدب الكويتي بشكل واضح منذ الحرب حتى الآن، ومع هذا يبقى سؤال مهم: إلى أي حد كشف الأدباء الكويتيون عن تأثير الغزو الصدامي سيكولوجيا على الكويت شعبيا وحكوميا؟! فأنا أفترض هنا ان حال الكويت السياسي والاجتماعي والاقتصادي هو وليد حالة الصدمة، فما الذي يمنع الكويتي أن يختزل في لا وعيه فكرة انعدام الأمان مثلا ويعكسها في نصه الإبداعي؟! من هنا أجد إنه على السرد العربي الجديد بشكل عام والعراقي، موضع المقاربة، مسؤولية جسيمة ومهمة في سرد أحداث الصدمة العراقية الممتدة منذ قرون، والمتجددة في كل حقبة تاريخية ولاسيما في الحقبة الأخيرة، من بعد الحرب العراقية-الإيرانية، وحرب الكويت، إلى دخول أميركا للعراق،وما يليه من تاريخ التطرف والجهاديين في العراق اليوم. وهو أمر لم يتخل عنه المبدع العراقي، بل أخذه على عاتقه، بطريقة لاواعية بالنظرية (لأن التعبير عن الصدمة لا يشترط الاطلاع على النظرية، بل هو استجابة طبيعية لما يحدث من أحداث) مسؤولية سرد الصدمة، بشفافية عالية، على أقل تقدير في وصف أحداث العنف، وآثارها، والتطرق لتاريخ الضحية، من دون إشارة حقيقية ومباشرة وصريحة لاسم الفاعل، أو اسم المفعول به وهو ما سأتطرق له لاحقا. في هذه القراءة، لا أزعم ان اطلاعي على خريطة السرد العراقي الحديث واسع ومستفيض بالكثير من التفاصيل السردية العراقية، ولكني من خلال بعض الفسح الزمانية هنا وهناك أجد نفسي أقرأ عملا ما أو مقالة تساعد في الاطلاع عليه لو من بعيد، اطلعت على مجموعة من الأعمال من مثل: «طشاري» لأنعام كججي، و «صائد الجثث» لزهير الجبوري، و «يامريم» لسنان انطون، وقرأت ما كتبته الدكتورة زهور كرام عن رواية رسول عبدالرسول «يحدث في بغداد»، ومجموعة قصص «تشتعل ولا تضيء» لعلي كاظم داوود، وهو ما لفتني إلى ظاهرة مهمة في السرد العراقي، وهي سرد الصدمة العراقية، لأحداث العنف التي زارت بغداد على مدى قرون ولا سيما الفترة الأخيرة. لقد تطرقت في مقال سابق عن ثيمة الصدمة في مجموعة «تشتعل ولا تضيء» للناقد والأديب علي كاظم دوود، وفي القراءة التالية، سأتطرق لنموذج آخر، وهو رواية «صائد الجثث» للمبدع العراقي زهير الجبوري، وهي رواية حصلت على المركز الثاني في جائزة أثر للرواية العربية. * كاتبة وناقدة كويتية
مشاركة :