لقاء البستان الخالد.. ببيت ميري فيروز أيقونة السلام العربي كانت أوّل زيارة لي لهذه المدينة العظيمة في عام 2008، حقيقة لحظات خالدة تظل لحظات حالمة تؤرقني ويبقى صداها بالذِّكر ... ولن أنساها رغم أنها انحصرت بفندق البستان، نعم، فقط ببيت ميري على أعالي الجبال المطلة على حسناء لبنان، حيث دعيت مع عدد من الموسيقيين لمصاحبة مطربة روسيّة من مدينة ياكوتس للمشاركة في مهرجان البستان المعروف ببيت ميري على سطح تلٍ يطل بناظريه على بيروت. لا أعرف كيف جاء الطلب لهذه المطربة الروسيّة، شتبانديا بورسوفا، التي ذاع صيتها في أوروبا عبر أغنية واحدة في فترة الثمانينيات، وهي بلا شك متمرسة في فنها وتصدح بأغنيات شمانيّة (ضرب من غناء قدسيّ دينيّ طقوسيّ) تُعجب الكثيرين. على كل حضرنا إلى فندق البستان ببيت ميري المرحاب وعندما بدأت البروفات وقفت على طريقة غنائها متفحصا، وكانت حقيقة - حسب احساسي - مخالفة لكل الأعراف والأذواق والمقامات الطربيّة العربية، كلاسيكيّة كانت أم شعبيّة، فقلت في نفسي يا للمأزق ويا للمصيبة التي ألمّت بنا، وحملني خيالي الخصب في تلك الساعة إلى خشبة المسرح وأمام الجمهور، وحلمتُ ساعتها بكابوس تتبدى فيه أفواج الطماطم ومفرقعات البيض على رأسي وعلى ظهر عودي وتنهال علينا من كل صوب وحدب، وبسبب هذا الإحساس الغريب الذي انبثق نتيجة طريقة المطربة فأوجست في نفسي من لقاء الجمهور خيفة محدثًا لها: يا إلاهي، حتى نخرج من هذا المأزق بسلام فعليك يا معلم أن تكتب قصيدة لتهدئة الأمور قبل الشروع في الحفل ولكي نستميل قلب الجمهور ونستحوذه إلى جانبنا، وكان كذلك، فقد كتبت القصيدة المنشودة وقرأتها بعنفوان قبل ابتداء الفاصل الغنائي وكانت بعنوان: حبًّا إليك يا بيروت. ووجدت بحمد الله وفضله من القبول ما وجدت ولكن تلك قصة أخرى. على كل في نهاية الحفل كان الاحتفاء بالمغنية والفاصل فوق التصور أو لنقل خارقا للعادة وتنفست حينئذ الصعداء وقلت أخاطب دواخلي: شكرا لك يا بيروت... شكرًا يا جمهور البستان! على أيّة حال نزلنا في تلك البقعة البديعة بضيافة السيدة الكريمة ميرنا بستاني التي أحاطتنا بحبها وكرمها الدافق ودعتنا ذات يوم إلى صالونها الأدبي بفندق البستان الرائع للاستماع إلى قراءات شعريّة وريستال عود. وتفاجأنا بوجود الفنان الجميل شربيل روحانا وأعتقد أن أحد الحضور طلب منه أن يعزف أغنية فيروز الخالدة ... لبيروت. ومنذ تلك اللحظة انطبع اللحن بدخيلتي وهممت بحبّ هذه الأنغام الخالدة وكلماتها الوفيّة الصادقة وصارت "لبيروت" تلازمني وتشد من أزري عندما تضيق الدنيا بي ذلك لفترات طويلة في حياتي. وهانذا أعود إليها وأعود بكم يا سادتي إليها وإلى فيروز الدنيا لنخفف عن أنفسنا وعن أهلنا بلبنان أحزانا أخيرة حتما لن تستمر لأن لبنان وأهله أقوى من كل هذه الأعاصير، فلبيروت السلام ولأصدقائي ببيت ميري كذلك سلام وأحلى التحايا. لبيروت ... أغنية خالدة دون أدنى شكّ؛ لحن من قوس إلاهي للموسيقار يواخين رودريغو، نفحات من لحن، بلسم للقلوب ومرهم للجُنُوب ورمز للإخاء في زمن الدمار والحروب، أغنية يبزغ شعاعها في حنايا النفوس كشمس للمحبة وقمر للمودة وتقف بين الناس في محاكم الحياة كمرافعة عصماء من أجل التسامح والسلام، ومن أجل التلاحم والوئام، ترنو لتنفض غبار البغضاء عن أبناء الوطن الواحد وتحمل، مذكّرةً بحكمة فاعليّتها وبلاغة شاعريّتها زهرة دفلى كهديّة تبث شذاها الأخاذ بينهم. هي يا سادتي سفيرة بين الطوائف ومن الأجاويد بين الإثنيات في بلاد العجائب لبنان، حيث يقول في هذا الصدد صديقي الحبيب الزجّال فادي ابن لبنان الإباء الآتي: والله ما كان للبنان أن يكون أو حتى أن يحيا على سطح هذه الكرة الأرضية لولا صمود بناته وأبنائه ولله في خلقه شؤون. تغنت لبيروت ببيروت فيروز، سيدة الطرب وسلطانة القلوب بعد أن أسكتت الحرب وسيل الدماء نسيم صوتها الملائكيّ الجهور من أن ينساب دواءً بين الأفئدة التي تلاشت أنواءها طيّ الاحتدام والاقتتال. هذه الإنسانة الفيروزيّة تعدّت بمراحل فوق التصور أن تكون أيقونة طربيّة، فنيّة، عالميّة فحسب، لتصبح معلمة ومايسترو بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ ذلك في تاريخ الأمّة العربيّة بأسرها. كيف لا وقد دونت وسطّرت اسمها بمداد من أنوار زيتونة لبنانيّة، لا شرقية ولا غربية، على صفحات الزمن وعلى أوراق كل قلب، كل امرأة، كل رجل، كل طفل وطفلة، كل شيخ وشيخة، حلموا وتاقت قلوبهم لأبسط الأشياء، نعم لأبجديات في حياة إنسان بسيط هتف فيروز صوت بها ألا وهي: لقمة الحريّة وجرعة الأمان. نعم، فيروزنا، سفيرة السلام وأميرة الوئام وأم الالتئام ومؤلفة الهندام وسلطانة الإلهام في كل أغنية وفي كل لمحة ونفس وفي كل زمان ومكان بين العوالم والأعلام. فيروز فيروز بدأت ملامح هذه البلد تتأثر، تتغير وتتحوّر بسبب الحروب الطائفيّة ومن جراء العنف الإثني بين المجموعات حتى صار الجور عادة لا يعرف أهل بيروت غيرها وكأنما "أُبلِستِ" العقول وأُلبِست أثواب غسيل مخّ الذبول، ألا ترى ما يدور، عمياء لا تعي ما بِأُخدود فهمها وما يمور، فضلًا أن ترجع البصر لترى هل من فطور وهل إلى برّ السلامة من عبور؟! ومع إطلالة عام 1975 انبلجت بيروت بعصا الحرب إلى يَمّين (بحرين)، بحر مسيحيّ شرقيّ وآخر مسلم غربيّ مما جعل من التنقل بينهما أمرًا مستحيلا، لا يَلِجَهُ حتى من تسنى له أن يحمل عصا موسى الكليم. وعندما اشتدت وطأة الفاقة والقتال واضطرمت نيرانها بين الأمّة، حينئذ ما كان من أهلها إلا أن يولوا وجوههم قبلة أخرى، يرضوها، وكان للأسف من بينهم الصناع والتجار والعلماء والمفكرون وحتى أهل الفن والطرب هجروا مدينتهم التي بكوا من أجلها وساهروا مصلين السنين الطوال أن تعود درّة الشرق وباريسه كما كانت من قبل لكن سدى ودون جدوى، آفلين و"ضاهرين" إلى ما وراء المتوسط، إلى الغرب والغربة إلى الحزن والندبة. وحتى في تلك الفترة العصيبة ظلّت فيزور، أيقونة الفنّ لا تبرحها، صامدة كصمود سهل البقاع ووفيّة بلحن البقاء، مبدية إخلاصا وأمانة تجاهها ممتلكة منزلين على طرفي خط التقسيم الآثم. بالطبع توقع الكثيرون في ظل الحرب أنها ستنحني لصالح الطائفيّة والتي بُنيت على الانتماءات اللاهوتيّة وأن تنحاز سيدة الفنّ فيروز في نهاية المطاف إلى الشقّ المسيحي منهما ضد المسلمين، بيد أن حكمتها النائبة وبصيرتها الصائبة وفوق هذا وذاك وطنيتها الواثقة حتمت عليها ألا تنحاز لأي من الطائفتين فرفضت بشدة مشيرة وقتئذ بكلمة "لا للطائفيّة" وعازفة مبتهلة في صومعة الغناء بوقار السناء طيلة سنيّ الحرب والاقتتال. ولن ينسى التاريخ لهذه السيدة وقفتها تلك وصمودها وإباءها أمام إغراءات الطوائف وانحيازات الملل مدى الحياة، فجاء ردّها لكل تلك الإرهاصات ساعتئذ بأغنية خالدة صدحت فيها ملء شدقيها قائلة: لبيروت ... سلام! وفي مقالها "فيروز وسيطة السلام بين اللبنانيين"، وتذكر مادلين عاصي أن فيروز لازمت الحياد السياسي والطائفي حتى في أكثر المواقف حساسية، لتبقى مع إرثها الغنائي نتاجاً للبنان بإطاريه الزماني والمكاني اللذين عاصرتهما، ولتختصر بمسيرتها الفنية بلداً كاملاً من فلكلوره وتاريخه وجماله الطبيعي وحتى الشقاقات التي دمرته. تغنت بها في عام 1984 نعم، أنشدتها بذروة الاحتدام وعندما حمي وطيس الحرب الطائفيّة فصارت في فترة وجيزة وطيلة سنيّ الحرب رمزًا لحبّ الوطن ومرافعة صريحة من أجل الرجوع إلى الحكمة منددة بانقسام الوطنية الذي دفع شعب لبنان ثمنه غالياً. أبدع أبيات الأغنية الشاعر المرهف الإحساس جوزيف حرب، باكياً فيها الحنين إلى الأوطان ونادبا في جنباتها آثار الدمار النفسي والماديّ الذي سببته تلك الحرب على حد سواء. تبدأ فيروز الطرب العربيّ المطلع الأول بالتحية لمدينتها التي أحبتها وبالسلام لها. وهل تشير بذلك لابتلاء الربّ لها ولمدينتها وتستطرد بين أبياتها مغنية لملامحها التي عرفتها وهي صغيرة ترفل وبترهات الحياة كسيدة تجدل من خط الساحل حيث المنازل القديمة إلى صخرة الروشة الأثريّة التي صارت من معالم الصمود والإباء ببيروت. دعونا نغني سويا ونستعيد صوت المحبة والتآخي فينا لنرفع من شأن بيروت في سبيل الإعمار والنماء. لله درّك يا بيروت ومنّي محبة واحترام! لبيروت من قلبي سلامٌ لبيروت وقُبلٌ للبحر والبيوت لصخرةٍ كأنها وجه بحارٍ قديم سارت في سياق الأغنية تظهر ماهيّة هذه المدينة التي صمدت القرون الطوال أمام كل من حاول التلاعب بشرفها وعفّتها، تذكرنا بهوية لبنان التي هي هويّة بيروت وتنادي بوقف الدمار والحرب التي شوهت وجهها النيّر وتتساءل ككل أهل لبنان ...لماذا الحروب، لماذا التناحر بين أبناء الوطن الواحد، لماذا المعاناة والكدر الذي ظل يتبعهم كظلالهم يوما تلو الآخر؟! هي من روحِ الشعب خمرٌ هي من عرقِهِ، خبزٌ وياسمين فكيف صار طعمها طعم نارٍ ودخانِ تصف هذه الأبيات اهتزازات بيروت الأرض ومعالم الدمار وقسوة الزمن التي جاءت على أمجادها لتسلبها كل مرّة ثوب النماء مزهقة أرواح الصغار والكبار على حد سواء، وتفصح عن ألم أمٍّ رؤوم فقدت فلذة أكبادها على حجرها، بيروت الأنثى التي اغتصبتها مدية الحرب وعنفوان الضرب وامتهان وهوان في زمن صار فيه لا أمن ولا أمان. لبيروت مجدٌ من رمادٍ لبيروت من دمٍ لولدٍ حُملَ فوق يدها أطفأت مدينتي قنديلها أغلقت بابها، أصبحت في السماء وحدها وحدها وليل تسترسل الأغنية لتشبه بيروت بعذراء اليسوع وبمجدليّة مريم العذراء التي عليها تساقطت رطب جنيّة لتحميها من الجوع والابتلاء، قابعة وعلى حجرها حمرّة الموت وأرواح أبنائها المسلوبة، مخضبة بدم أحد صغارها، والذي يرمز للبلد "لبنان" ها هي محمرة الأيدي به، بيروت الأنثى محور الدنيا وقلب العالم، نبض لبنان الذي يضرب بالوفاء والمحبة هو نفسه قلب فيروز العرب. نجد رمزيّة الأبيات تذهب لتجسد إنسانية بيروت ولبنان كجسدين من لحم ودم فالأبيات بعيدة أن تهدف لرمزيّة المكان فحسب، أقصد الموقع في شكل أطلال ودمن للحرب، لكنها تجعل منهما أيقونتين، امرأتين، جسدين عاريين نابضين بضربات قلب وبدماء الحياة. لذلك فإن الإحساس يكبر ويعمق عندما يتأثر هذان الجسدان بنيران القنابل وضربات القذائف التي حامت حولهما وحلت كالطيور الكاسرة تطاردهما بعد أن كان السلام يغمرهما والوئام يحميهما من صقيع التناحر وأجيج التنافر. ختمت فيروز أغنية لبيروت بكلمات خالدة ذات أبعاد سيمائية عميقة: "أنت لي" تسندها ملكية القلب لهذا الجسد النابض بالحيويّة وتناجيها أن تعانق قلبها المكسور وهنا نجد توحدا وانصهارا بين المدينة والمغنيّة، فهما قد توحدتا متناغمتين في جسد واحد وبنبض واحد، جسد متحد لا يعرف راحة وأمانا إلا عند العناق، جسد تنتهكه صلافة الذكور وتدنيس الطهور بمخالب النسور، وتنهمر من ذاك الجسد المتحد دموع الحزن والأسى تناجي بوله وايمان نهاية الحرب التي ربما تدخل بهدنتها ووقوفها الراحة والسكينة إليه، وأن ينتهي الألم والدم إلى ما لا نهاية، ويرحل الانقسام والاحتدام إلى ما لا نهاية، وتنطوي صفحة الدمار وتصير نسيا منسيا. وتنتهي الأغنية بعناق الأرواح، عناقا يتحقق منه الأمن والأمان في كل كيان وبكل زمان. "أنتِ لي أنتِ لي آه عانقيني أنتِ لي رايتي، وحجرُ الغدِ وموج سفرٍ أزهرت جراح شعبي أزهرت دمعة الأمهات أنتِ بيروت لي، أنتِ لي، آه عانقيني". تمثل هذه الأغنية ذروة لخسارات فادحة نرجو ألا تعود، نزف لبنان دمه خلالها بسبب الحرب الأهلية فكان لحضور فيروز بساحة الشهداء رمزيّة عميقة: ألا تعود الحرب إلى جنباتها، فتغنت بها في عام 1994 لتلأم الجرح الغائر الذي أحدثته تلك الأحداث بين الطائفتين وأن تكون القلوب شواهد للحب والصداقة والمرح وأن السلام هو الحل الأوحد لشعب لبنان. ففي هذا البلد العجيب الغريب - كما ذكر أخي فادي اللبناني - والذي يشهد يوما تلو الآخر تغيرات كبيرة في كل المجالات تبقى أيقونته فيروز هي همزة الوصل، نصف القطر ورمز السلام والمحبة بكل أرجائه ولكل كل فرد به دون فرز، ففيروز هي لبنان وبيروت هي فيروز والعكس. فلأغانيها صدى يظل تاريخا عميقا في فؤاد أهله وفي جنبات كل مكان به وستظل فيروز سلطانة الطرب العربيّ الأصيل أيقونة للتسامح والمحبة ليس بلبنان وحده بل في كل بلدان الوطن العربيّ، نتعلم منها معنى الرضا والمغفرة ونلبس في حضرتها ثوب التعددية ونبذ الطائفية، ففيروز هي سفر الحكمة ومايسترو اللباقة والفطنة وستبقى تاريخا شامخا تخلده صفحات الأزمان. سلام لبيروت وسلام للبنان.
مشاركة :