أنا من الأشخاص الذين لا يؤمنون بالصدفة والصدف، وإنما أنا مؤمن بأن كل الأمور التي تجري في الكون لا تجري إلا بإرادة الله سبحانه، فهو الذي يسير الصدف وهو الذي يقدرها وينفذها، وهذا يعني أن الأمور تجري في الكون وفي حياة الإنسان بحكمة دقيقة قد لا نعلمها ولكنها حتمًا أنها لا تنشأ بالصدفة وإنما بتنظيم عزيز قدير.ولكن ربما غيري لا يؤمن بمثل ما اعتقده، وهذا حقه، ولا نختلف معه.عمومًا، سواء كنا نؤمن بالصدفة أو لا نؤمن بها، فإننا من المهم أن نتقن فن صناعة الصدفة، وذلك لأسباب كثيرة، إذ إنها في الكثير من الأحيان تسهم -بصورة أو بأخرى- في تحسين أوضاعنا الأسرية أو المهنية، ولكن المهم أن نحسن صناعة الصدفة حتى نتمكن من استغلالها بصورة إيجابية حتى لا تأتي بصورة عكسية ومنافية لما نريد، فيحدث ما لا يحمد عقباه وأمور لا نرغب فيها وتنتفي الاستفادة منها، فتزول الفرصة وتتطاير الصدفة وتذهب.حسنٌ، كيف نصنع الصدفة؟شاب يعمل في مجال التسويق والاستشارات (س)، يحاول (س) أن يلتقي برجل أعمال كبير في سوق العمل إلا أنه لا يستطيع نظرًا إلى أن رجل الأعمال مشغول دائمًا، فهو ينتقل من اجتماع إلى آخر، ومن مندوب إلى آخر، ومن مركز عمل إلى مركز آخر، لذلك لم يكن لديه الكثير من الوقت لمثل مندوبي التسويق أو ما شابه ذلك، لذلك فقد فوض هذا الأمر لبعض المسؤولين الذين يعملون في المؤسسة.إلا أن الشاب (س) كان يريد رجل الأعمال بالذات، فهو يعتقد أنه لو جلس مع رجل الأعمال هذا فإنه حتمًا سيتمكن من تنفيذ الفكرة التي يرغب في تنفيذها، أما بقية المسؤولين فإنهم سوف يكتبون تقريرًا ومن ثم سيتحول التقرير إلى اللجنة المسؤولة وتدور الفكرة في روتين الإجراءات، لذلك فإن مصيرها ربما يكون إلى الزوال، فكان حتمًا مقابلة رجل الأعمال نفسه، ولكن كيف؟حاول الشاب (س) أن يدرس بعضا من سلوكيات رجل الأعمال وخاصة تلك المتعلقة بالحضور والانصراف، ومن يرافقه أثناء الحضور والانصراف، وهل سكرتيره الخاص يكون معه، وما إلى ذلك من المعلومات التي كان يحتاج إليها، ظل يبحث لمدة شهر تقريبًا، ولم يكتف بذلك وإنما كان يراقب. وبعد شهر وقف قرب باب المؤسسة يترقب، وعندما جاءت سيارة رجل الأعمال دخل ووقف بالقرب من المصعد الذي عادة ما يستخدمه رجل الأعمال، وعندما جاء رجل الأعمال ينتظر المصعد تقدم إليه الشاب (س) قائلاً:«سيدي، أنا (---) وأعمل مستشارًا في المؤسسة (---)، وأود أن أتحدث إليك، ولكني أعلم جيدًا كم هو وقتك ضيق، فهل تأذن لي بالاتصال بمكتبكم وتحديد موعد لمقابلتكم؟ إنها صدفة سعيدة أن أقابلكم اليوم وفي هذه اللحظة».ترى ماذا يمكن أن يكون رد فعل رجل الأعمال؟ الذي حدث أن رجل الأعمال ابتسم وقال: «بكل سرور، اتصل بالمكتب وخذ موعدا»، ثم أشار إلى أحد المصاحبين قائلاً له: «حددوا (لفلان) موعدا حتى يمكنني مقابلته».عندئذ يمكن أن تنتهي الصدفة، ولكن لاحظ أنها لم تكن صدفة، وإنما هذا الشاب (س) صنع صدفة حتى يصل إلى مراده وهو مقابلة رجل الأعمال، وربما رجل الأعمال أعتقد أنها مصادفة، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، ثم يبقى الأمر بعد ذلك مرهونا بالشاب كيف يمكنه أن يسيّر أموره مع رجل الأعمال.ولقد وجدنا الكثير من الحكايات كان أبطالها شباب -من الجنسين- يصنعون الصدفة حتى يصلوا إلى الهدف الذي يريدون تحقيقه، ولكن هل هذا من حقهم؟ وهل هذا صحيح؟ربما النظرة إلى هذا الموضوع تختلف من شخص إلى آخر، فبعضهم يجدها أنها مباحة، وبعضهم يضع لها بعض المحاذير، والبقية الأخرى تجد أنه من المفروض ألا نمثل على الآخرين ونوهمهم بمثل هذه المواقف من أجل تحقيق أهدافنا الشخصية، وهذه النظريات تعتمد على الشخص ومصالحه الشخصية، فإننا وجدنا بعض الناس يقبل بهذا الوضع إن وجد أن هذه الصدف يمكن أن تحقق أغراضه الشخصية وفي المقابل يستهجن على من يقوم بها إن لم تكن تخدم مصالحه هو.فلنتخيل شابا -مثلاً- يدرس مسؤوله من حيث ساعات الدوام متى يحضر الدوام ومتى يغادر، وماذا يحب وماذا يكره، وهل لديه أولاد، فإن كان كذلك يحاول أن يعرف ماذا يحبون وماذا يكرهون، ومثل هذه المعلومات الإنسانية الاجتماعية، ليس ذلك فحسب وإنما يحاول أن يختار المكتب الذي يطل على الشارع حتى يرى المسؤول وهو قادم، حتى وإن شاهد سيارة المسؤول وهي قادمة يقوم من مكتبه ويذهب إلى الباب الذي يدخل منه المسؤول وكأنها صدفة، عندئذ يقوم بالترحيب به، ويحمل عنه الشنطة وربما المشلح وكل الذي يحمله المسؤول ويدخل معه المكتب وهو يرحب به بكلمات ما أنزل الله بها من سلطان، وربما في مرات أخرى يحمل معه بعض الأمور التي يحبها أولاد المسؤول ليهديه قبل أن يراه الموظفون، هكذا تصنع بعض الصدف. هذه الصدفة صنعت من أجل مصالحه هو الشخصية من أجل الترقي في العمل، يقوم بها الموظف لخدمة هذا المسؤول وليس لخدمة البلاد والمؤسسة التي يعمل فيها، هذه الصدف يقوم بتمثيلها هذا الشخص وكأنها حدثت بطريقة أو بأخرى من غير أن يكون هو المتحكم فيها، وربما تكون الترقية التي يحصل عليها هذا الشاب على حساب أشخاص آخرين يستحقون الترقية نظير عملهم الجاد وقدراتهم ومهاراتهم في أداء العمل، إلا أن هذه الترقيات وتلك العطايا كانت دائمًا تذهب إليه هو شخصيًا ومن غير أن يستفيد منها أي موظف آخر مهما كانت قدراتهم واستحقاقهم لتلك الترقيات، فهل يمكن أن نعتبر أن هذه الأمور فنا لصناعة صدفة؟ نعم إنها كذلك إلا أنها ضد مصالح الآخرين وهذا ينافي الكثير من القيم والأعراف، فهي غير مقبولة، لذلك نعتقد أن صناعة الصدفة يمكن أن تكون عملية مقبولة إن لم تهدد مصالح الآخرين، لأنه في الكثير من الأحيان يمكن أن تفعل الصدف عملها في مساعدة الناس في تحقيق أهدافهم من غير أن تضر الآخرين، فمثلاً: وجدت أن أحد السادة كان يحاول أن يوظف ابنه الخريج في مؤسسة ما، إلا أنه لم يتمكن من مقابلة المسؤول الأول في تلك المؤسسة، فذهب يسأل عن أقربائه وأصدقائه، فبعد مساحة من الزمن عرف أن فلانا من الناس صديق مشترك، فتحدث مع هذا الصديق المشترك، فما كان منهما إلا أن صنعا صدفة بحيث حاولا أن يلتقيا -بطريقة الصدفة- في مكان عام ويتعارفا، ومن خلال تلك الصدفة المرتبة أتيحت فرصة للشاب للعمل في تلك المؤسسة.هكذا تصنع الصدف.ولكن صناعة الصدفة تحتاج إلى مهارة وعمل دؤوب، فالصدفة لا تأتي صدفة، وإنما تحتاج إلى ذكاء ومهارة في صنعها، وفي الكثير من الأحيان تحتاج أيضًا إلى نوع من الذكاء الاجتماعي، إذ إن الإنسان الذي يفتقد إلى قدرات الاتصال والتواصل فإنه من المستحيل أن يصنع صدفة تمكنه من الوصول إلى تحقيق هدفه الذي يريد، وحتى إن تمكن من تحقيق الهدف في مراحله الأولى فإنه حتمًا سيخفق في الاستمرار لأنه لا يتمتع بتلك النوعية من الذكاءات.ذات مرة حاول أحد المتخصصين أن يبهر أحد المسؤولين الكبار، على الرغم من أن هذا المتخصص كان في تلك المرحلة يدرس في المراحل النهائية من الدرجة التي يدرسها، وبالفعل تمكن عن طريق أحد الأصدقاء -الذين يحبون الصدف المرتبة- أن يصل إلى المسؤول الكبير جدًا عن طريق الصدفة البحتة المرتبة، فببعض الكلام الجميل والأحلام الوردية، حظي بوظيفة عالية جدًا، إلا أنه بعد فترة من الزمن لم يتمكن من الاستمرار في العمل بسبب انتهاء الكلام المعسول وتحولت الأحلام الوردية إلى رماد وأحلام رمادية، فانتهى كل شيء في لحظات.إذن في صناعة الصدف نحتاج إلى بعض الأمور التي يجب أن نأخذها في الحسبان، وهي:1- ألا تهدد مصالح الآخرين، ولا تضر بمصالحهم مهما كانت المبررات.2- أن نعرف كيف نصنعها، وكيف نستغلها وكيف نستفيد منها، فصناعة الصدفة لا تأتي صدفة وإنما تبتكر وتصنع، ويجب أن تتوافر لها كل الظروف حتى تصنع.3- أن نكون من الذكاء بحيث إنه لو أتيحت لنا الفرصة المناسبة يجب أن نعرف أن نستغلها بطريقة مدروسة وبطريقة ذكية، فلا نكتفي بأننا وصلنا في تلك اللحظة إلى تحقيق الهدف الآني، لذلك يجب أن نفكر على المدى البعيد والهدف البعيد.ذات يوم قال لي أحد زملاء العمل، لماذا لا تحاول أن تتملق لمسؤولك؟ فأنت إنسان متمكن من كلماتك ومن لسانك، وتستطيع أن تصاحب ذلك المسؤول فهو محتاج إليك، وأنت محتاج إليه، ويمكنكما معًا أن تصنعا الكثير من أجل المؤسسة ومن أجل البلاد. ثم أردف قائلاً بطريقة التحذير والتي كانت أقرب إلى التهديد منها إلى التحذير والنصيحة: إنك إن لم تتعاون معه فإنه إنسان متمكن يستطيع أن يضرك ويركنك ويهمشك في العمل، فأحذر.إلا أني بعد فترة، وبعد البحث والتقصي، عرفت أن ذلك المسؤول يحاول أن يصنع صدفة عن طريق هذا الزميل ويحاول أن يستدرجني إلى بعض الأمور التي لا أرغب في القيام بها لأنها ترتبط ببعض المصالح الشخصية والعديد من الأمور اللا أخلاقية، لذلك رفضتُ ذلك العرض، وحصل ما حصل.صناعة الصدفة فن، إلا أنها أخلاق قبل ذلك، فإن لم ترافق المحافظة على القيم والأخلاق صناعة الصدفة فإنها حتمًا ستكون وبالاً على صانعها، لذلك يجب الحذر والانتباه مهما كانت المبررات. Zkhunji@hotmail.com
مشاركة :