ما المراهقة؟ هل هي مشكلة أم مجرد تحوّل من مرحلة عمرية إلى أخرى؟ أم سيل من التساؤلات لا ينتهي؟ هل هي اندفاع فتية تسكنهم المشاعر والنزوات والسعي المحموم لفهم من يكونون؟ مسرحية “نماذج” تستكشف بعض خصائص هذه السنّ الحرجة. في ظل الحجر الصحي المتواصل، حاول بعض رجال المسرح في فرنسا إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لاسيما بعد إلغاء مهرجان أفينيون في أبريل الماضي، فاقترحوا نقل جانب من أنشطته إلى باريس، حيث تم عرض خمسة عشر عملا في مهرجان أقيم في ساحة بارادول غربيّ باريس، بفضل جهود ماتيو توزي وإدوار شابو من “مسرح 14” (نسبة إلى الدائرة التي يوجد فيها هذا المسرح). الثنائي استغلا قاعة ألعاب مغطاة هي قاعة أوغست رونوار، وأعدّا فيها مقاعد وموائد للمتفرجين للأكل والشرب والمشاهدة عن كثب، وأطلقا على المهرجان اسم “مهرجان باريس أوف” على غرار مهرجان أفينيون أوف، ذلك المسرح البديل الذي يقام على هامش المسرح الأصلي، ويخصّص للفرق المستقلة. ومن بين عروض هذا المهرجان المبتكر “نماذج” لنتالي بنسار، بطلاها مراهق ومراهقة، يثيران قضية تخصّ هذه الشريحة العمرية التي حار حتى المتخصصون في تحديدها. فالمراهق كما جاء في اللسان هو الغلام الذي قارب الحُلُم، وظل هذا المفهوم التقليدي للمراهقة مرتبطا بالبلوغ، أي عندما تبلغ البنت المحيض وتصبح قادرة على الإنجاب، وعندما يبلغ الولد الحلم ويصبح قادرا على الباءة. أما المحدثون فقد اعتبروا البلوغ مرحلة فرعية داخل مراحل المراهقة، التي هي في نظرهم تغيرات جسدية وعقلية وعاطفية واجتماعية تعتري الطفل بداية من بلوغه الحلم، بينما أكّد بعض الباحثين أن مرحلة المراهقة تقع اليوم ما بين سن العاشرة والرابعة والعشرين، نتيجة التغيرات الفيزيولوجية والاجتماعية التي نشهدها منذ نصف قرن. الفتى يبحث عن التواصل، فيبدو في عجلة من أمره، أما الفتاة فترجو الحب الكبير وتنتظر فارس الأحلام بشغف كل ذلك يقيم الدليل على أن المراهقة لم تخضع لتعريف محدد، لأن الناس دأبوا منذ القدم على تقسيم حياة الإنسان إلى ثلاث مراحل أساسية هي الطفولة والكهولة والشيخوخة، وما المراهقة في تصوّرهم إلاّ عملية انتقال من مرحلة إلى مرحلة. ورغم ذلك، ظل المصطلح عصيا على تحديد موحّد، إذ اختلف العلماء في تعريفه باختلاف اختصاصاتهم. ويبقى التعريف الأكثر شيوعا هو ذلك الذي وضعته البريطانية هيلين بي، والذي يلخّص المراهقة في كونها “مرحلة انتقالية يتغير الطفل خلالها جسمانيا وذهنيا ومعرفيا لكي يغدو كهلا”، وأضاف إليه البلجيكي ميشيل كلايس التغيرات الحاصلة في علاقات المراهق مع محيطه، مؤكّدا أن المراهق لا يقف من تلك التحوّلات موقف المتفرج السلبي، بل ينخرط كفاعل جادّ حريص على بناء حياته الخاصة. في هذه المسرحية يستكشف مراهقان تلك الأفكار النمطية التي تخص فئتهما العمرية، والأحكام المسبقة والممنوعات والمخاوف والرغبات والجموح والمشاعر التي تستبد بهما، ويحاولان فهم من يكونان بالضبط، وما يتوقان إليه، وفي أي عالم يعيشان. هو يبحث عن التواصل، وما وراءه، فيبدو في عجلة من أمره، أما هي فهي ترجو الحب الكبير، وتنتظر فارس الأحلام. ممثل وممثلة في مقتبل العمر ينهضان بدور البطلين، على ركح تبدو في خلفيته لوحة ضخمة لمشهد البلكونة في مسرحية “روميو وجولييت”، دون أن يجنحا إلى تقليد لهجة المراهقين، بل يؤديان دور مراهق ومراهقة من فصل دراسي واحد يقتحمان مسرحا مغلقا، ما يعني أنهما تحدّيا المنع، وراحا يخوضان حوارا يتسم بالخصام أحيانا عن العلاقات بين الذكور والإناث، والسلوك الاضطراري لكلا الطرفين، والصور الثابتة عن كل منهما، وتوق الجنسين كل من جهته إلى حياة أفضل. أحد الأعمال المعروضة أحد الأعمال المعروضة ولما كانت المسرحية قائمة في الأصل على التواصل مع الجمهور، فقد اضطرت المخرجة أن تلتزم بالمعطيات الوقائية، حتى تجعله عرضا “مقبولا كورونيّا”، ولكن دون أن تتخلى عن بعده الفني. تقول المخرجة إن الدراماتورجيا سعت إلى تقشير طبقات الأحكام المسبقة والعقد والموانع للوصول بالشخصيتين إلى تقمّص وضعهما الحقيقي، وضع شاب وفتاة في عمر معين لا يقيمان وزنا لما يقال عنهما، بل يسعيان إلى تحقيق الذات، من خلال ممارسة حريتهما كما يهويان لكسر القيود وبلوغ الحرية. لقد تجاوزا المحرمات بدخولهما مسرحا دون إذن، لكي يتمرنا على مشهد من “روميو وجولييت”، ولكنهما يمضيان في حوار نكتشف من خلاله تناقضات كلّ منهما، وموقفه من الأحكام المسبقة. وعبر ألعاب وتحديات ورهانات وتبادل كلمات عاصفة أحيانا، يغادر كل منهما طفولته، ويدخل عالم المراهقة، ليجد نفسه على بعد خطوتين من الكهولة. ويبقى اللغز الذي يخيّم على أجواء المسرحية والذي لم يُكشف عنه، ونعني به “الحبّ”. فالنهاية مفتوحة توحي بأن البطلين كشفا عن شخصيّتيهما بشكل سمح لكل واحد أن يعرف حقيقة الآخر، بلا مساحيق، فهل يكون ذلك بداية حبّ وغرام؟ لا ندري. ولو أن المخرجة تشبّه حالهما بحال من يقع في هوى شخص افتراضي في المواقع الاجتماعية، قبل أن يكتشف الآخر على أرض الواقع. بعدها لا نعرف بالضبط كيف تكون العلاقة، فالافتراضي غير الواقعي، والحلم غير الحقيقة المجسدة، فقد يلاقي المرء ما كان يتوقع، وقد يصاب بخيبة.
مشاركة :