من المدارس الطلائعية التي ظهرت في أواسط القرن الماضي، التجريدية الغنائية، وتشمل كل أشكال التجريد، بخلاف نظيرتها التي تعنى بالجاذبية الهندسية والبنائية، وهي تعبير مباشر عن المشاعر الذاتية، ولكن بطريقة لا يراد لها أن تفهم. باريس – اختلف المؤرخون في أصل انبعاث حركة التجريدية الغنائية، ولكن الثابت أنها ظهرت في فرنسا عام 1947، كردّ فعل على هيمنة المدرسة الأميركية، وصارت تطلق على كل أشكال التجريد التي لا تنضوي تحت التجريد الموسوم بالهندسي. وبذلك امتدت لتشمل التعبيرية التجريدية الأميركية، رغم تباين تاريخ الاتجاهين، ثمّ التلطيخية. وهذه التسميات ليست مترادفة في الواقع، ويمكن القول إن أشكال التجريد الغنائي على اختلافها تشترك في اتخاذها أسلوب فاسّيلي كادينسكي (1944-1866)، خصوصا أعماله التي أنجزها خلال عامي 1913 و1914، مرجعا غير معلن. كانت الآلية التي مارسها بعض السرياليين أمثال أندري ماسّون، والنمساوي فولفغانغ بالين، والشيلي روبرتو ماتّا وحتى الألماني ماكس إرنست أحيانا، قد أثّرت هي أيضا في التجريدية الغنائية. وبداية من عام 1960، اتسع المفهوم ليشمل بشكل تعسفي كل الفنون التي لا تخضع للأشكال، فكان مآله الذوبان، لاسيما أن الموضة وقتها اتّجهت إلى الواقعية الجديدة. مدرسة باريس الثانية كانت غاية أولئك الفنانين الذين ساروا في هذا الاتجاه التعبير عن حقيقة كامنة في صدورهم، ورفض كل فنّ يمكن أن يفهمه المجتمع. فهو فن يتّسم بالحرية والعفوية والحيوية، وتتعارض تقنية أصحابه مع الطبع المهووس لفناني التجريدية الهندسية، خاصة من جهة اللون والكتابة الخطوطية. فهم ينادون بفن حرّ، غير أكاديمي، وغير تسجيلي، يمارَس بيد مرفوعة دون تخطيط مسبق، أي أنه تعبير مباشر لا تبتعد جماليته كثيرا عن الفن الخطوطي. وكان ماتيو يشتغل عادة على لوحات ذات أحجام كبيرة، وأحيانا بحضور الجمهور. ورغم أن فنه تجريدي، فهو لا يخلو من مرجعيات تاريخية، قديمة أو معاصرة. بعض رواد التجريدية الغنائية ينادون بفن حرّ، غير أكاديمي، وغير تسجيلي، يمارَس بيد مرفوعة دون تخطيط مسبق ويذكر بعض مؤرخي الفن أن الروسي فاسيلي كادينسكي كان أول من مهّد لمبدأ التجريدية الغنائية في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، ثم تبعه هانس هارتونغ الذي وضع أسس التلطيخية (التاشيسم)، حيث استعاض عن الصورة بأشكال حرة وتجريدية. وكانت الحركة التصويرية لديهما عفوية وآلية تقوم على قذف الألوان على القماشة. ويعتقد أولئك المؤرّخون أن هذين المصدرين يمثّلان مصدرا لما سوف يعرف لاحقا بالتجريدية الغنائية. أي أن هذه الحركة لم تأت عقب بيان مؤسّس، بل ظهرت عام 1947 كحركة فريدة ومستقلة بذاتها، حول الثنائي جان جوزي مارشان، وجورج ماتيو، ثم التحق بهما عدة فانين أمثال هارتونغ، والكندي جان بول ريوبيل، وجان ميشيل أتلان، والألماني فولفغانغ شولزه الشهير بفولس. وقد وُجد فنانون آخرون كانوا ينتجون نمطا من التجريد، شبيها بالتجريدية الغنائية (لا هو بالهندسي ولا بالتصويري) دون أن ينضموا إلى الحركة، مثل نيكولا دو ستائيل. أولئك الفنانون، الذين لمعوا في الساحة الباريسية في تلك الفترة، كانوا قد عاشوا الحرب العالمية الثانية، ومنهم من عاد من الجبهة، أو من المنفى، متأثرا، مهزوزا نفسيا، فاختاروا الابتعاد عن المجتمع والتعبير عمّا يحسّون، عمّا أسموه حقيقة داخلية يحملونها طيّ إهابهم. وكان جورج ماتيو (2012-1921) زعيمهم، فهو الذي قام بتنظيم المعارض الأولى للتجريديين الغنائيين منذ تأسيس الحركة التي عرفت بمدرسة باريس الثانية، إشارة إلى المدرسة الأولى التي ظهرت في منعطف القرن العشرين وضمّت أسماء كثيرة من أماكن متفرّقة من العالم، وخاصة روسيا وإسبانيا وألمانيا. تشتّت الحركة التجريدية الغنائية غايتها جمالية أولا وأخيرا التجريدية الغنائية غايتها جمالية أولا وأخيرا رغم ظهور الواقعية الجديدة التي انجذب إليها عدد كبير من الفنانين، فإن التعبيرية الغنائية ظلت حاضرة في فروع متعددة، بعضها سابق، وبعضها لاحق. ومن بين تلك الفروع، التي ارتبطت بالتجريدية الغنائية، التعبيريةُ التجريدية الأميركية التي تعرف أيضا بالفن العملي ومن رموزها جاكسون بولوك، وفيليم دي كوننغ، وهانس هوفمان. وتعتمد على العمل الجسدي في الرسم لإبراز اللون والدوافع المادية والنفسية. والتلطيخية التي ابتكرها هانس هارتونغ وتقوم على الرسم بلطخات ألوان تلقى على القماشة بصورة عفوية غير مدروسة. كذلك كوبرا التي تضم أسغر جورن، وكارل أبيل، وبيير أليشنسكي، وغيوم كورناي، وهي مجموعة تستلهم مادتها من الطواطم والعلامات السحرية للثقافات البدائية والخط العربي والفن القروسطي وحتى فنون ما قبل التاريخ، وتجد في الكتابة أبلغ وسيلة للتعبير عن النفس بصفة مباشرة، ولذلك يعبّر أنصارها عن خلجاتهم من خلال ألوان بالكلمات، أو رسوم بالكلمات، أو ملصقات بالكلمات. ومن الفروع أيضا لون مجال الرسم الذي يضم مارك روثكو، وأدولف غوتليب، ومورّيس لويس، وبارنت نيومن، الذين يشتغلون على مساحات واسعة من الألوان مع الحرص على إزالة أي عمق في اللوحة، كي تبدو مسطحة. بيير سولاج ابتكر ما أسماه الأسود الضوئي، حيث يطغى لون أسود ثخين تتخلّله حزوز بيير سولاج ابتكر ما أسماه الأسود الضوئي، حيث يطغى لون أسود ثخين تتخلّله حزوز ولئن تشتّتت الحركة منذ مطلع الستينات، فإن أعضاءها واصلوا تجربتهم، كلّ على حدة، بنجاحات متفاوتة. منهم من صمت أو توفي، ومنهم من عمّق مجراه، دون التنكّر لمبادئ الحركة الأساس، أي التعبير عمّا يخالج النفس، دون البحث عن فهم المتلقي، لأن الغاية جمالية في جوهرها، تكاد تخصّ الفنان وحده، دون سواه. ومن رموز هذه الحركة الذين شقوا طريقهم وفرضوا أسماءهم كتجارب متفرّدة، نخص بالذكر هانس هارتونغ (1989-1904)، وهو فرنسي من أصل ألماني، بدأ تجربته بأعمال في شكل دوامة وداوم الرسم بالحبر الأسود مغمض العينين، مستندا في ذلك إلى الحدس وحده، ثمّ انتقل إلى الأشكال الخطية ومنها إلى حزم من الخطوط المتوازية. ثم أجرى مع زوجته النرويجية أنّا إيفا بيرغمان (1987-1907) محاولات لتقليص الأشكال إلى حدودها الدنيا، فاستعمل الرشّ والقشط ومكانس من أغصان الشجر ولفائف طباعة حجرية. وكذلك جورج ماتيو وهو من رواد البحث عن لغة تعبيرية أولية، إذ كان يفتّت الألوان بأصابعه ويؤثر السرعة على غرار الأميركية من أصل أوكراني جانيت سوبل (1968-1894) أو الأميركي جاكسون بولوك. وقاده البحث عن جماليات جديدة إلى الرسم الخطوطي، والإبداع الحيّ أمام الجمهور، فمّما يُذكر أنه أنجز لوحة مساحتها 48 مترا مربعا عام 1956 بحضور ألفي متفرّج في مسرح مدينة باريس. ومن رموزها أيضا بيير سولاج (الذي أطفأ شمعته المئة العام الماضي) وقد فتن بفن ما قبل التاريخ والفن الرومانْ (وهو فن سبق الفن القوطي، واستمر من بداية القرن الحادي عشر إلى النصف الثاني من القرن الثاني عشر، ولو أن التسمية ظهرت لاحقا، بداية من عام 1835 تحديدا). وقد تميزّت أعماله بموتيفات داكنة على مساحات ملوّنة، قبل أن يبتكر ما أسماه الأسود الضوئي، حيث يطغى لون أسود ثخين تتخلّله حزوز.
مشاركة :