قد يجد الرئيس البيلاروسي نفسه مضطرا للاتحاد مع روسيا، في دولة واحدة بعد ان رفض في وقت سابق مقترح الرئيس فلاديمير بوتين، إعلان الوحدة الكاملة بين الشقيقتين السوفيتيتين السابقتين. يوصف الكسندر لوكاشينكو، بأنه آخر دكتاتور في أوروبا، يحكم منذ ثلاثة عقود تقريبا. وحاز الرئيس فارع الطول، على لقب " باتكا"، وتعني باللغتين الروسية والبيلاروسية التوأمين، " الوالد "، كناية عن الهيمنة الأبوية على مقاليد الدولة البيلاروسية، أكثر الجمهوريات السوفيتيّة قربا من الشقيقة الكبرى روسيا، وكانت تحتل ما نسبته 0.9 من إجمالي مساحة الدولة السوفيتيّة عشية تفككها، وبحوالي عشرة ملايين نسمة حسب آخر تعداد سوفيتي للسكان. حافظ" باتكا" على النمط السوفيتي في السياسة والاقتصاد، فلم يسمح بخصخصة ممتلكات الدولة، كما في روسيا. وحافظ القطاع العام على دوره القيادي في الاقتصاد. وإذا كانت روسيا، شهدت سنوات الرئيس الأول عقب انفراط عقد الاتحاد السوفيتيّ بوريس يلتسين، تحولا ليبراليا عاصفا، نقل كبريات المصانع والمؤسسات الحكومية إلى ملكية حفنة من الأوليغارشيين؛ فإن المصانع الثقيلة، بما فيها العسكرية، بقيت تحت القبضة الحديدية لنظام الرئيس لوكاشينكو الذي تميز عن جميع نواب آخر برلمان سوفيتي بأنه لم يؤيد قرار منح الجمهوريات السوفيتيّة الاستقلال، أي تفكيك الدولة العظمى عام 1991. تمتع لوكاشينكو بشعبية بين الروس الذين يشعرون بالحنين إلى الحقبة السوفيتيّة وإلى الاستقرار والقبضة الحديدية. بيد أن هذه الشعبية أخذت تتناقص بفعل مواقف" باتكا" المتذبذب، وتردده في تحقيق الوحدة الناجزة مع الأخ الأكبر، وما اعتبره الروس مواقف انتهازية، والبعض خيانة بالتقارب مع الغرب خلافا لرغبات الكرملين. ومرت فترات شنت خلالها وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية الروسية حملات منظمة ضد لوكاشينكو، وصفها "باتكا" بالظالمة. واتهم عددا من أوليغارشية موسكو بالوقوف خلفها، سعيا وراء إسقاط النظام في مينيسك الذي يحول دون السماح للمراكز المالية الروسية بالاستحواذ على ممتلكات الدولة، كما تسنى لها ذلك في روسيا. ورغم الود المفقود ببن نظام "باتكا" وبلدان الاتحاد الأوربي على مدى سنوات حكمه الطويلة نسبيا، إلا أن مينيسك، فتحت نوافذ للتفاهم مع الدول الأوربية التي ترى في روسيا، خصما ومنافسا، ولا تجد في بيلاروسيا عدوا ما دامت دولة منزوعة السلاح النووي، وباقتصاد صغير. وسعى الاتحاد الأوربي إلى احتواء بيلاروسيا كما أوكرانيا في مسعى جيوسياسي لعزلهما عن الأخ الأكبر، روسيا. وتراوحت علاقات الكرملين مع "باتكا" بين البرودة والدفء، ولم تصل يوما إلى درجة عالية من الحرارة. كما لم تبلغ حد المواجهة الساخنة إلا قبل أيام من الانتخابات الرئاسية، حين ألقت سلطات مينيسك على 32 من منتسبي شركة" فاغنر" الأمنية الخاصة، قالت إنهم دخلوا العاصمة البيلاروسية للتأثير على سير الانتخابات. وفيما نفت موسكو تلك المزاعم بشدة، أعلن الرئيس البيلاروسي، أن أعضاء فريق"فاغنر" اعترفوا بأنهم أوفدوا في مهمة تتعلق بالانتخابات الرئاسية وأنهم يخضعون لمزيد من التحقيقات. وبعد ساعات من إعلان فوز لوكاشينكو بنسبة تزيد على الثمانين بالمئة، على طريقة الانتخابات في بلدان العالم الثالث، اندلعت تظاهرات في مينيسك ومدن بيلاروسيا الأخرى، تحتج على ما اعتبره مرشحو المعارضة تزويرا فاضحا. وواجهت الشرطة المحتجين بالضرب العشوائي، واعتقال المئات، وتعرض بعضهم الى تعذيب بشع. وظهرت آثار الضرب وكسر الأضلاع على عشرات الفتيات والشبان، وهم يدلون بتصريحات غاضبة أمام عدسات الصحافة. ومع سقوط قتلى ببن المتظاهرين، ازدادت حدة الاحتجاجات وتصاعفت أعداد الحشود، واشتعلت الاضرابات في مختلف أرجاء البلاد. وبات المراقبون يشبهون الوضع في بيلاروسيا، بأنه نسخة من "الثورات الملونة" التي اندلعت في أوكرانيا وبلدان الساحة السوفيتيّة السابقة وصار عنوانا رئيسا في نشرات الأخبار. التزم الإعلام الروسي الرسمي بمبدأ عدم تركيز الاهتمام على أحداث بيلاروسيا، والاكتفاء بنقل الأخبار القصيرة. وأجرى لوكاشينكو أول اتصال مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، يوم الجمعة 14 آب/سبتمبر، ونقلت الوكالات أن بوتين بحث مع لوكاشينكو، سبل الخروج من الأزمة. ولوحظ بعدها تغير في نغمة الإعلام الروسي تميل إلى تبنى موقف لوكاشينكو، الذي يتهم قوى خارجية بتحريك الشارع المعادي للاستقرار في البلاد وحذر من أن الخطر الداهم سيمتد إلى روسيا إذا لم "نتحد بوجهه". وفهم المراقبون تصريحات" باتكا" المناشدة بالتدخل الروسي ضمنا، وإطلاق سراح متعاقدي شركة "فاغنر" من المعتقل في بيلاروسيا على أنها، إشارة على قبول لوكاشينكو بالعرض الروسي للاتحاد والذي ماطل على مدى سنوات في قبوله. ومع تفاقم الأزمة، ولجوء المرشحين المعارضين إلى دول الجوار، تحت طائلة التعرض للاعتقال أو التصفية، دخلت الأحداث منعطفا جديدا، بات العامل الخارجي، يؤثر على سياقها بالفعل. وكان لوكاشينكو، اتهم المعارضة بأنها تعمل بناء على توجيهات من الخارج، وأن "حفنة" ممن تحركم قوى خارجية، لن توثر على الوضع. بيد أن "الحفنة" تكاثرت لتبلغ زهاء 200 ألف متظاهر اختنقت بهم ساحة" الأنصار" في مينيسك لوحدها. وتعيد الصور الملتقطة من كاميرات مسيرة، إلى الاذهان، مشهد "الميدان" في العاصمة الأوكرانية كييف، حين أسقط المتظاهرون الرئيس الموالي لموسكو فيكتور يانوكوفيتش، قبل سنوات. وصار اسم "ميدان" عنوانا للانتفاضات الشعبية، ضد النخب الحاكمة في الساحة السوفيتيّة السابقة. وظهرت في موسكو وسانت بطرسبورغ، حركة "أنتي ميدان" المناهضة للثورات "المصدرة من الخارج". وكرس أنصار الحركة جهودهم لمقاومة التظاهرات الاحتجاجية التي تندلع بين الحين والآخر في موسكو وعدد من المقاطعات الروسية، آخرها مقاطعة خباروفسك في الشرق الأقصى. قد يجد الرئيس فلاديمير بوتين نفسه أمام خيارات صعبة في التعامل مع " ميدان" بيلاروسيا.. فمن جانب لا يمكن لموسكو أن تقف متفرجة حتى النهاية على تصاعد الاحتجاجات المطالبة برحيل حليف لم يكن مريحا تماما، إلا أنه في كل الأحوال، أقرب الأصدقاء لروسيا المحاطة بأعداء أوربيين، وعقوباتهم الاقتصادية، والأحقاد الأمريكية المترسخة في المؤسسة الحاكمة بغض النظر عن لون وتسريحة شعر الرؤساء المتعاقبين على البيت الأبيض.. وعلى الملقب الآخر، سيفتح التدخل الروسي المفترض، ملف الدور الروسي في أوكرانيا، واتهام موسكو بدعم الانفصاليين في دونباس ومساندة جمهوريتهم المعلنة من جانب واحد. وترى غالبية المراقبين، أن التدخل الروسي المنشود، قد يكون قبلة الموت للرئيس البيلاروسي، لأنه سيزيد من مشاعر العداء لنظامه حتى بين مؤيديه الذين ألقى بين عدة آلاف منهم خطابا حماسيا بالأمس، شدد خلاله على مقولة المؤامرة الخارجية، مؤكدا أنه لن يعيد الانتخابات، ولو خسر حياته، وتعهد بتقاسم السلطة وتعديل الدستور. في هذه الغضون، انتقلت الاحتجاجات إلى المصانع الكبرى، فاضرب قسم من عمالها عن العمل، وتوسعت، لتدخل استوديوهات مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الحكومية، إذ امتنع عاملوها عن الظهور على الهواء، وشغلوا وقت البث ببرامج من الأرشيف. يطالب الإعلاميون، بحرية الصحافة ومحاسبة قوى الدرك التي أطلقت النار على التظاهرات وسقوط قتلى. ويواجه "باتكا" لأول مرة، وبعد خمس دورات رئاسية، حركة احتجاجات تتسع يوما إثر آخر. ففي ولايته الخامسة، وقبلها، اندلعت الاحتجاجات أيضا، لكنها كانت محدودة ولم تعمر طويلا. ويلوح أن المعارضة تضافرت في الولاية السادسة، التي قد لا تتم، وحشدت قواها، لإسقاط الرئيس الذي قال عنه وزير خارجية ألمانيا السابق، ريدو فيسترفيلله، المعروف عنه، ميوله الجنسية غير التقليدية، بأنه دكتاتور.. فرد "باتكا" دون تردد: الأفضل أن أكون دكتاتورا على أن أوصف بالشذوذ الجنسي! سلام مسافر المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتبتابعوا RT على
مشاركة :