تعتبر سياسة حافة الهاوية في شرق البحر المتوسط وبحر إيجة تجديدا للتوترات القديمة بين تركيا واليونان، فهي نسخة القرن الحادي والعشرين من الصراع الحضاري بين أوروبا والإمبراطورية العثمانية. بعد توقيع اليونان ومصر اتفاقية الحدود البحرية في استجابة واضحة للاتفاق البحري الذي وقعته تركيا مع حكومة الوفاق الوطني الليبية في طرابلس في نوفمبر، أعلن وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونماز بدء سفينة “عروج ريس” لأعمال المسح السيزمي في شرق البحر المتوسط، في المياه المتنازع عليها بالقرب من اليونان. فجهّزت أثينا قواتها المسلحة معلنة حالة تأهب قصوى، وتعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتعزيز الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة لمواجهة الاعتداءات التركية. من جهته، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن ماكرون وغيره يريدون إعادة الفترة الاستعمارية من خلال أنشطتهم في المنطقة. وبعد ثلاثة أيام، أشار إلى أن حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يتزعمه ملتزم بعقيدة العثمانيين. وفي التحرك العدواني المتكرر شرق المتوسط، والعسكري في سوريا والعراق والصومال وليبيا، ومع حلم التوسع البحري الذي تعكسه عقيدة الوطن الأزرق، أعادت تركيا العهد العثماني إلى الأذهان. وقالت نيرفانا محمود، وهي معلّقة مستقلة متخصصة في قضايا الشرق الأوسط “في كل مكان توجد فيه دولة ضعيفة في المنطقة العربية، يقفز الأتراك ويحضرون الورقة العثمانية ويحاولون مغازلة مواطني هذا البلد”. وتابعت في حديثها إلى موقع أحوال تركية “حتى في لبنان، قفزت تركيا على الفور وعرضت إعادة بناء مرفأ بيروت”. فبعد أيام من الانفجار الذي دمر مجمعات سكنية بأكملها وأودى بحياة أكثر من 210 أشخاص وجرح الآلاف، زار نائب الرئيس التركي فؤاد أوكتاي ووزير الخارجية مولود جاويش أوغلو بيروت عارضين المساعدة في إعادة الإعمار ومدّا يد الصداقة. وقال أوكتاي، مشيرا إلى فترة الحكم العثماني، إن الأمر يتعلق بعائلة تعايشت معا لمدة 400 سنة. قبل يومين، أصبح ماكرون أول زعيم أجنبي يزور لبنان بعد الكارثة، ودعا إلى تقديم المساعدات له. وتعدّ فرنسا لاعبا رئيسيا في تحالف ناشئ مناهض لتركيا، ويضم اليونان وقبرص وإسرائيل. وفي يناير، اتفقت هذه الأطراف على بناء خط أنابيب غاز شرق المتوسط بطول 1900 كيلومتر. كما تشمل قائمة الدول الرافضة للتدخل التركي مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ويعني وجود الدول ذات الأغلبية المسلمة أن المشكلة ليست الإسلام، بل الإسلاموية، وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين، التي تدعمها تركيا وقطر بينما تعتبرها مصر والسعودية والإمارات جماعة إرهابية. ويعدّ هذا مصدر التوترات بين أنقرة والقاهرة، والتي تعود إلى إطاحة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بمحمد مرسي والإخوان المسلمين من أصحاب العلاقات بحزب العدالة والتنمية في 2013. وقد رأت تركيا في عزل مرسي انقلابا، وقطعت العلاقات مع نظام السيسي واستمرت في دعم الجماعات المرتبطة بالإخوان. في مايو، دعا مقال في صحيفة الأهرام المصرية الحكومية إلى الوفاق بين تركيا ومصر. والآن، يتواجه الاثنان في شرق البحر المتوسط وفي ليبيا، حيث أوقفت حكومة الوفاق الوطني المدعومة من تركيا هجوما مخططا على مدينة سرت بعد أن زار السيسي قواته على الحدود الليبية الشهر الماضي وتعهد بأن جنوده سيتدخّلون إذا ما حدث مثل هذا الهجوم. ترى نيرفانا محمود أن أردوغان بالغ في تقدير شعبية الإخوان في مصر، حيث لم تنل الجماعة سوى ربع الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي نُظّمت في 2013. كما تراجع وجود الإخوان المسلمين في مصر في السنوات التي عقبت تولي السيسي السلطة حيث وقف في وجه التنظيم الإسلامي، لكنها تعترف بتمتع الإخوان بشعبية أكبر خارج البلاد. ففي أواخر يوليو، نشرت الحكومة الفرنسية تقريرا من 240 صفحة عن تأثير الإسلاموية المتزايد في فرنسا، مع التركيز على جماعة الإخوان المسلمين، وقالت إنها تسيطر على أكثر من 10 في المئة من مساجد البلاد وحوالي 600 منظمة إسلامية. وأشار التقرير إلى تركيا وقطر باعتبارهما الداعمتين الأساسيتين للإخوان في فرنسا، موضحا أن نصف الأئمة الأجانب البالغ عددهم 300 هم من تركيا، على الرغم من أن الشعب التركي لا يمثل سوى 5 في المئة من المسلمين في فرنسا. وقد كتب الصحافي أريس روسينوس الأسبوع الماضي لموقع “انهرد” البريطاني “لا يصعب توقع تحرّكات ماكرون وهو يتجه نحو موسم الانتخابات، حيث يدمج حملته ضد الإخوان المسلمين في الداخل بموقف أوروبي حازم ضد تركيا في الخارج. وقد وجد كل من أردوغان وماكرون في بعضهما أهدافا مثالية لمشاريعهما الحضارية”. ومن المنتظر أن تجري البحرية الفرنسية تدريبات مشتركة مع اليونان شرق المتوسط خلال الأيام المقبلة تعبيرا عن التضامن ضد التحرّكات التركية التي وصفها الاتحاد الأوروبي بالمقلقة، حيث من المقرر أن يعقد مجلسه الخارجي اجتماعا استثنائيا الجمعة لمناقشة المسألة. لكن نيرفانا محمود لا تتوقع تنفيذ حزمة كبيرة من الإجراءات في أي وقت قريب، حيث يشعر الناتو بقلق من إزعاج تركيا لأعضائه ودول الاتحاد الأوروبي المنقسمة بين أطراف أكثر تشددا في موقفها مثل فرنسا وأولئك الذين يتخذون مواقف أكثر ليونة مثل إيطاليا ومالطا وربما ألمانيا. وقالت إنهم “ليسوا مستعدين للانغماس لمعالجة جذور المشكلة المتمثّلة في أطماع أردوغان وعقيدة الوطن الأزرق، لكنهم ليسوا مستعدين لتفاقمها أيضا”. ولا تنتظر حدوث أي تغيير في شرق المتوسط إلا بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. تمثّلت أحد طموحات أردوغان طويلة الأمد في إعادة تحويل متحف آيا صوفيا الشهير إلى مسجد في إسطنبول، وهو ما حققه الشهر الماضي، مما أثار المناقشات في الأوساط الإسلامية عن احتمال أن تعلن تركيا دولة خلافة جديدة قريبا. وسمعت محمود هذا الحديث من جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الأخرى منذ عقود. وقالت “يقولون إننا سئمنا من الحداثة ودعونا نعود إلى الأمة الموحدة”، مضيفة أن هذا الرأي يتجاهل حقيقة أساسية للإمبراطورية العثمانية وخلافتها: كان للسلطان عدد كبير من الأعداء. في هذا الإطار، قال وزير الخارجية التركي السابق يشار ياكيش لموقع أحوال تركية هذا الأسبوع، إن التوترات الحالية تذكرنا بحرب البلقان في 1912، عندما اتحدت كتيبة من الأعداء ضد الإمبراطورية العثمانية، ودمرت جيشها واستولت على ثلاثة أرباع من أراضيها. تذكرت محمود نكات جدتها التي تناقلها المصريون في أوائل القرن الماضي للسخرية من حكامهم العثمانيين، مؤكدة كيف أن أردوغان وأنصاره الإسلاميين يبدون غير مدركين لنتائج اعتداءاته الإقليمية، التي تهدف إلى تسليط الضوء على تركيا كقوة إقليمية، للاستياء. وبالفعل، انخفض الدعم العربي لأردوغان منذ أيام الربيع العربي الأولى. وقالت محمود “في 2012، اعتقد الكثيرون أن أردوغان سيصلح سوريا. فعندما تراجع أمام الروس، سامحا لنظام الأسد بالبقاء، بدأ الجمهور يتساءل عن حقيقة الأمور”. كما تعهد أردوغان بتوطين حوالي مليوني سوري في المناطق التي تسيطر عليها تركيا في شمال شرق سوريا وتدمير الجيب الكردي المتمتع بالحكم الذاتي في المنطقة. وبقي هؤلاء الملايين من اللاجئين السوريين في تركيا إلى اليوم، بينما وقع الأكراد السوريون صفقة نفطية مربحة مع شركة أميركية. قالت محمود “أصبحت ليبيا منقسمة ولم يتعد الأتراك الخط الأحمر الذي حدده السيسي في سرت حتى الآن. لذلك، بدأ الجمهور يتساءل: هل هو بهذه القوة التي يوهم بامتلاكها أم أنه مجرّد كلام”؟
مشاركة :